في حوار مفصل لبرنامج "بلا حدود" على فضائية الجزيرة القطرية يوم 25 يوليو/تموز 2012، صرح رئيس الحكومة المغربية عبد الإله بنكيران -ضمن ما صرح به- بأنه لا ينوي "مطاردة الساحرات" ولا متابعة الفاسدين والمفسدين في جحورهم وأوكارهم، وإنما أتى إلى السلطة بنية إصلاح الوضعية الاقتصادية والاجتماعية المتردية للبلاد، وإخراجها من نفق الأزمة المستدامة التي تنهش مفاصلها ومرافقها منذ زمن طويل. وأوضح بن كيران في ذات الحوار أنه "ليس من الممكن محاربة اقتصاد الريع أو القضاء على الفساد" لأن الأمر -برأيه- صعب ومعقد، وأنه لم يأت ليحمل "مصباحا ويبحث عن المفسدين في أركان الدولة.. لأن ذلك سيكون جريمة في حق الوطن".. نعم يؤكد رئيس الحكومة "سيكون جريمة في حق الوطن". ورغم تلميح الرجل إلى أن الفساد والريع كانا لعهود طويلة مضت بمثابة سياسة ومنطق للدولة ثابتين، لا بل ومنظومة حكم وحكامة من بين ظهرانيها، فإن فلسفته تقوم على محاربتهما وفق ما جاء في الآية الكريمة "عفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه" (المائدة: 95). وعليه، فإنه يوضح بالمباشر الصريح أن معالجته لملفي الفساد والريع ستتم بلطف، وأن المطلوب اليوم "ليس إعمال مبدأ الانتقام، بل مخاطبة هؤلاء بقول: كفى"، علهم ينتهون ويتعظون ويسهمون في صيرورة طي ملفات الماضي، ثم يتجهون باتجاه الإسهام في بناء مسارات صحيحة للحاضر، واستشراف أصح لآفاق المستقبل. إن الرجل بهذا يريد القول بأن حكومته إنما تهدف -من ضمن ما تهدف إليه- إلى "حماية الاستثمار وعدم إشاعة مناخ الخوف"، بدليل أن وزيره للعدل والحريات مصطفى الرميد -وهو المحامي والنائب البرلماني الذي طالما ناهض جيوب الفساد والمفسدين في المحاكم كما في غرفتي البرلمان- يقول إن الحكومة "لن تنهج حملات تصفية للمراكز المالية ولذوي رؤوس الأموال بدعوى محاربة الفساد". إن ذلك برأيه لن يفيد البلاد كثيرا بقدر ما سيكون من شأنه تنفير الاستثمار الداخلي والخارجي على حد سواء، والتضييق على أصحاب رأس المال، والحيلولة دون دوران عجلة الإنتاج المفرز للثروة والمفضي إلى خلق فرص العمل لمئات الآلاف من العاطلين. ليس غرضنا هنا تفكيك الإشارات -المضمرة والصريحة- التي أراد رئيس الحكومة إرسالها إلى هذه الجهة أو تلك، في الداخل والخارج، فذاك أمر يحيل على النوايا أكثر مما يؤشر على الوقائع، بله عن التحليل الموضوعي. وليس غرضنا أيضا مساءلة رسائل ما بين السطور، لا سيما وهي صادرة عن رجل عرف بعفويته وسجيته، وعدم تخفيه خلف خطابات التعميم أو التعويم أو الجمل المحيلة على التأويل. حسبنا هنا إبداء بعض الملاحظات الأساسية بغرض وضع ذلك التصريح في سياقه السليم، أو لنقل وضعه في سياق السلوك البراغماتي الذي غالبا ما يطبع الفاعل السياسي عندما ينتقل من وضع المعارضة المريح، إلى سدة الحكم حيث يوضع وجها لوجه مع محك الإكراهات والتحديات: - الملاحظة الأولى تتمثل في ركوب رئيس الحكومة الواضح والصريح لمبدأ المهادنة مع الفساد والمفسدين، لا سيما أنه أدرك بحكم منصبه أن محاربتهم أمر عسير ومعقد، لا بل ومن باب المستحيل ربما، بحكم تعششهم في كل أجهزة الدولة، بما فيها المستويات التقريرية من الصف الأول، وبحكم تشابك خيوط السوق بالسياسة، وتحول ماكينة الدولة الخفية إلى خصم وحكم، بالسلطة الناعمة إن أمكن, وإلا فباللجوء إلى أدوات القوة الخشنة التي يصبح في ظلها الكل مع الكل ضد الكل، بشراسة ودون هوادة. صحيح أننا لاحظنا تغير لهجة رئيس الحكومة، احتكاما على الأقل إلى ما بشر به حزبه طيلة حملته الانتخابية، لكن ذلك لم يكن حينها إلا من باب الشعارات والنوايا. أما وقد اطلع على "الملفات" ودقق في الطبيعة الشبكية الناظمة لها، فإنه لم يمكن بمقدوره -أو هكذا استشعرنا الأمر- إلا أن يهادن ويداهن ويوازن، إذا لم يكن من باب درء الفتنة، فعلى الأقل لتجاوز سيناريو المصادمة الذي أحسه وقد تكاثرت ردود الفعل السلبية والمناهضة من حوله. ولعل تجربة نشره للوائح مأذونيات النقل من لدن وزارته في التجهيز، وما أثارته من ضجة من طرف من تحصل عليها، وتمنعه بسبب ذلك في نشر الباقي، لاسيما مأذونيات الصيد بأعالي البحار حيث للجيش و"كبار القوم" النصيب الأوفر.. ما ذلك إلا ترجمة لتزايد ردود الفعل المناهضة بقوة لسياسة الرجل، ودليل إضافي من طرفه على أن العملية أعقد بكثير مما قد يتصوره المرء لأول وهلة، أعني وهو خارج ردهات السلطة يوزع الوعود يمنة ويسرة. ومع ذلك، فإن هذا الاعتبار لا يشفع البتة لقرار رئيس الحكومة بالعفو عما سلف، اللهم إلا إذا كان لا يدرك أن فتح المزيد من ملفات الفساد والمفسدين لن يمر بسلام، وقد يفرز زوبعة قد تتحول وفق مبدأ التراكم إلى احتراب مضمر، ثم إلى مواجهة مباشرة قد يذهب بجريرتها الأخضر واليابس. في هذه الحالة، وما دام الأمر كذلك، ما كان للرجل أن يرفع أصلا شعار محاربة الفساد في برنامج حزبه الانتخابي، ولا التشديد على عزمه المضي في هذا السبيل في كل لقاء أو مؤتمر أو تصريح وهو في السلطة يمارس مهامه الدستورية. - الثانية وتكمن في قول رئيس الحكومة بأن محاربته للمفسدين هي من قبيل مطاردة الساحرات، لكونهم "عفاريت وتماسيح" يملكون قدرة فائقة على الاختباء والتخفي، وعلى التصدي أيضا.. إن هذا القول ليس خاطئا على إطلاقه لأنهم كذلك حقا، لا سيما وقد باتوا "حزبا" قائما بذاته ولوبيات متشعبة وقوية بمختلف الإدارات في المقاولات العمومية والمؤسسة العسكرية، وجهاز القضاء أيضا حيث الحماية مضمونة في آخر المطاف، والمتابعة غير واردة أصلا.. إنهم باتوا دويلة داخل الدولة، وربما الدويلة التي لا يمكن للدولة أن تقوم بدونها أو تتحرك دون إشارة مباشرة منها. غير أن هذا القول أيضا ليس صحيحا ولا هو بالدقيق، إذ مع تعذر البحث عن هؤلاء، كان الأولى برئيس الحكومة أن يعمد -على الأقل- إلى إعمال مبدأ المتابعة القضائية بحق من أشار إليهم المجلس الأعلى للحسابات بالاسم والصفة، وبالحجج الدامغة فضلا عن ذلك. والمجلس الأعلى مؤسسة دستورية يقوم عليها قضاة محلفون لا تأخذهم في الحق لومة لائم، اللهم إلا من ارتضى بيع ضميره والطعن في القسم الذي يكبل رقبته وذمته. إننا في هذه النقطة- لا نطالب رئيس الحكومة بالبحث عن المفسدين داخل جحورهم المحصنة، بقدر ما نطالبه -كحد أدنى- بتحويل تقارير المجلس الأعلى إلى النيابة العامة، وهي بمنطوق الدستور تحت تصرف وزيره في العدل، ثم تسليمها بعد ذلك للقضاء ليبت في صحتها، وبذلك يكون ينكيران قد أبرأ ذمته واحترم مبدأي الحكامة والمحاسبة الواردين في الدستور، وبرر موقفه بأنه لم يعمل إلا على احترام وتفعيل المؤسسات الدستورية، أعني لم يأت شيئا من عنده يعاتب أو يحاسب عليه. - أما الثالثة فمفادها أن المفسدين وناهبي المال العام والعابثين بثروات المغرب ولسنين طويلة مضت ولا تزال (تقدر الإحصاءات أن ما تم تهريبه من عملة صعبة إلى الخارج حتى كتابة هذه السطور، قد تجاوز ال40 مليار دولار، معظمه على شكل ودائع واستثمارات عقارية في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وكندا وغيرها)، قد يتم التسامح معهم وإبراء ذمتهم الشخصية، وهذا أخف الضررين في ظل واقع الحال، لكن شريطة أن يعيدوا للدولة ما نهبوه، لأن أفعالا من هذا القبيل جرائم لا تخضع لمبدأ التقادم، ولا حق لأحد -كائنا من كان، حتى لو كان بأعلى سلطة في البلاد- أن يُصدر عفوا جزافيا على من ارتكبها أو ساعد على ارتكابها.. فهو ليس منتدبا قضائيا عن المغاربة، خاصة الذين صودرت أملاكهم أو ابتلعت أراضيهم، أو تعرضت مشاريعهم للمصادرة من طرف هذا الفاسد أو ذاك، أو تم أكل ضرائبهم بالباطل في النهار أو في جنح الظلام. يقول فرع منظمة الشفافية في المغرب -وهي جمعية مدنية ذات نفع عام تهتم بمحاربة الرشوة- إن "الإفلات من العقاب أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تفشي الرشوة والفساد في بلادنا، وإن تنفيذ القانون ليس حقا في ملك الحكومة، بل واجبا دستوريا وسياسيا وأخلاقيا يأتي على رأس ارتباط المسؤولية بالمحاسبة". وتضيف أن "التصريحات الأخيرة لرئيس الحكومة خطيرة ومميزة لهذه المرحلة الأولى من عمرها، علما بأن الجهاز التنفيذي لا يملك أصلا حق العفو أو عدم العفو عن الفاسدين، لأن متابعتهم مسؤولية القضاء". وهو نفس الطرح الذي ذهبت إليه الهيئة الوطنية لحماية المال العام، وهي منظمة أهلية أيضا تختص في فضح ناهبي المال العام ومتابعتهم قضائيا بوسائلها الخاصة، حين أكدت أن "المغرب صادق سنة 2005 على الاتفاقية الدولية لمحاربة الفساد، وهي ملزمة للدولة بجملة إجراءات من ضمنها عدم الإفلات من العقاب". والقصد مما سبق أنه إذا تم التغافل على المفسدين أو إبداء التسامح معهم تحت هذه الذريعة أو تلك (وضمنها ذريعة طمأنة الاستثمار وعدم تجفيله وذريعة "التماسيح والعفاريت")، فكأننا نشرعن حقا لجريمة ثابتة كان الفاعل الثاوي خلفها متخفيا، وعندما انكشف وظهر استقبلناه بالأحضان ورفعنا في وجهه بشرى "عفا الله عما سلف". ثم إذا كان "المرء" عفريتا حقا وحقيقة، فهل يحتاج إلى بشر -اللهم إلا إذا كان نبيا مبشرا- ليصدر بحقه عفوا عن هذا السلوك المشين أو ذاك؟ أما القول بأننا سنجفل الاستثمار الأجنبي والداخلي إن نحن عمدنا إلى مطاردة الفاسدين وإخراجهم من جحورهم، فهو قول مجانب لعين الصواب، فلطالما اشتكى الاستثمار وتشكى من سيادة الفساد وانتشار المحسوبية وظلم القضاء. ثم لو قلنا بذلك فكأننا نقول أيضا بأنه لا استثمار إلا بتوفر شرط الفساد، ولا تنمية بدون مناخ في الفساد يعطيها النجاعة والقوة ويفسح لها في المجال لضمان تراكم رأس المال، وهذا لعمري عين العبث، لا بل طرح جديد في الاقتصاد السياسي لم تعهده الكليات ولا مدارس التكوين. تقول منظمة الشفافية إن "استفحال الرشوة يؤثر سلبا على الاقتصاد الوطني بتقليص الاستثمار المنتج، وتقويض المنافسة الشريفة، وتعطيل تنافسية المقاولات، وتعميق الفقر وتهديد السلم الاجتماعي، وتخريب البناء الديمقراطي". المنظمة هنا لا تنطق عن الهوى، إذ حتى لو لم يتسن للمرء أن يقتنع بما تذهب إليه، فهل يمكن التسليم بأن نهب المال العام هو حقا من عناصر تراكم رأس المال؟ وهل يستطيع المرء أن يدافع عن أن تهريب العملة الصعبة إلى الخارج من عناصر الاستثمار المنتج؟ وهل يستطيع المرء -فوق كل هذا وذاك- القول بأن وجود فاسدين في المؤسسات المنتخبة من عناصر البناء الديمقراطي؟