في فندق من فئة 5 نجوم يليق بالمقام، اعتقل أمراء ووزراء ورجال أعمال كبار في السعودية، في انتظار التفاوض معهم حول تنازلهم عن مليارات الدولارات التي ستخرج من حساباتهم الخاصة إلى خزينة الدولة المثقلة بأعباء الحرب في اليمن، وجزية ترامب، وتكاليف رؤية 2030. زلزال سياسي كبير ضرب في السعودية نهاية الأسبوع الماضي، وأسفر، في سابقة من نوعها، عن اعتقال أمراء كبار من العائلة المالكة، واحتجاز كبار رجال الأعمال الذين يزنون مئات المليارات من الدولارات.. صارت شؤون المملكة ضيفا دائما على نشرات الأخبار العالمية منذ مجيء سلمان إلى العرش. الشعار الكبير الذي جرت تحته عملية الحزم الحقيقية هو محاربة الفساد، وهو شعار غريب عن مملكة النفط التي لا توجد حدود واضحة فيها بين المال العام والمال الخاص، وبين السلطة والبزنس، وبين السوق وقصور الحكم… لكن، ولأن لكل معركة صداها في الشارع، فإن محمد بن سلمان، الذي يقود البلاد بيد من حديد، اختار هذا الشعار الشعبي لكي يصفي حساباته مع طرفين كبيرين؛ الأول هو البيت الداخلي للحكم الرافض لولاية عهده، والرافض لحصر الملك في أسرة آل سلمان، والثاني هو الرأسمال السياسي الذي أظهر تبرما واضحا من خطط الشاب، الذي يقترب كل يوم من تسلم مفاتيح العرش في بلاد غارقة في التقليد، ومحاطة بكم هائل من المخاطر والتعقيدات الداخلية والإقليمية والدولية. قبل أن يصدر الأمر الملكي بتشكيل لجنة حصر المخالفات والجرائم المالية، كانت السلطات السعودية قد ألقت القبض على أكثر من 100 رجل أعمال يتقدمهم الوليد بن طلال، الذي يملك أكثر من 17 مليار دولار، وأودعتهم سجنا من 5 نجوم، وبدأت التفاوض معهم حول الحصة التي سيتنازلون عنها من ثرواتهم لصالح خزينة الدولة، مقابل إسقاط تهم الفساد والرشوة وتبييض الأموال والاغتناء غير المشروع عنهم. ولأن المباغتة جزء من الخطة، فإن كل شيء تم قبل إعلان تشكيل هيئة غير قضائية في بلاد لا سلطة تعلو فيها على سلطة ولي الأمر. صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية اعتبرت «ما حصل تشديداً لقبضة ولي العهد السعودي الحديدية على العائلة الحاكمة، لقمع موجة غضب متصاعدة داخلها نتيجة تركيز السلطات العسكرية والمالية والإعلامية في يد الأمير محمد بن سلمان، بعدما كانت موزعة ضمن العائلة، وكذلك لمنع كل المنافسين المحتملين، وهو ما يفسّر، على الصعيد المالي، اعتقال الوليد بن طلال وتجميد حساباته، ويفسّر، على الصعيد العسكري، إعفاء ثم اعتقال الأمير متعب، الذي كان، خلال حكم والده عبد الله، مرشّحاً للدور الذي يلعبه وليّ العهد الحالي». الملك سلمان وابنه محمد، البالغ من العمر 32 سنة، يؤسسان الملكية الثانية في السعودية، إذ يطويان صفحة مملكة عبد العزيز، ويفتحان صفحة مملكة سلمان، حيث لا وجود لحكم العائلة التي يتوارث فيها أبناء عبد العزيز الملك. باعتقال أمراء كبار، وإزاحة ما بقي من تركة الملك الراحل عبد الله، وتتريك الحيتان الكبيرة من رجال الأعمال في مملكة السيف، يرمي الحكم السعودي إلى تحقيق جملة من الأهداف، أهمها: 1- تثبيت حكم الشاب الصاعد إلى العرش في حياة والده، وإزاحة كل مراكز القوى من طريقه، سواء من قبل أعمامه أو أبنائهم، ومحاولة تصوير أركان وازنة من الأسرة الحاكمة على أنها أطراف فاسدة ومرتشية ولا تستحق الاسم الذي تحمله، وهذه هي الخطوة الثالثة في مسيرة تنصيب محمد بن سلمان حاكما بأمره في السعودية، بعد قرار إعفاء الأمير مقرن من ولاية العهد، وقرار إعفاء محمد بن نايف من المركز الثاني في الخلافة، ووضع محمد بن سلمان مكانه، وهي محاولة لإنهاء حكم عائلة آل سعود، وحصر الملك في أبناء سلمان، وقطع الطريق على الآخرين. 2- الزلزال السياسي الذي ضرب في السعودية هدفه إزاحة طبقة رجال الأعمال القديمة، التي احتكرت جل الصفقات العمومية في الداخل، والتي أبدت قلقا متزايدا من خطط الشاب محمد، وفتح المجال لطبقة رجال أعمال جديدة من جيل ولي العهد مهيأة لمسايرة سرعته، ومتفهمة لمشروعه، ومنقادة لسلطته على عالم المال والأعمال. 3- الهدف الثالث من حملة الاعتقالات التي جرت في وسط عائلة آل سعود، ووسط كبار رجال الأعمال، هو جمع المال الضروري لتمويل المجهود الحربي في اليمن، ولتمويل خطة 2030 لإعادة بناء الاقتصاد وتغيير المجتمع، ومعاقبة الأغنياء الكبار الذين صاروا سلطة فوق السلطة، وصارت لهم مساحة تحرك واسعة في السياسة والإعلام والاقتصاد في الداخل والخارج، في بلاد رأسمالية، بلاد منافسة، اقتصادها اقتصاد سوق، لكن، دون قواعد، ولا حرية سياسية، ولا مجتمع مدني، ولا استقلالية للقضاء. الضربة المقبلة لمحمد بن سلمان ستكون في قلب المؤسسة الدينية، بعدما أوشك على حسم الصراع على السلطة بجمع كل الاختصاصات بين يديه، وبعدما أنهى الصراع على الثروة بتتريك كبار رجال الأعمال. لا يخفي محمد بن سلمان قلقه من تطرف بعض تيارات المؤسسة الوهابية التي تحوز سلطة كبيرة في المجتمع السعودي المحافظ، وتورط بتشددها الدولة في مآزق كبيرة، أبرزها المسؤولية الأولى عن صناعة فكر الإرهاب الذي يركب على ظهر السلفية الجهادية المتفرعة عن السلفية الوهابية التي تضع النص فوق العقل، والتقليد فوق الاجتهاد، والتطرف فوق الاعتدال. هل سينجح الملك سلمان وابنه في عبور العواصف الداخلية والخارجية، والخروج من بحر الظلمات سالمين، ومعهما 31 مليون سعودي نصفهم يبلغ من العمر أقل من 25 سنة؟ هذا هو السؤال الذي يقلق مليارا ونصف مليار مسلم يتابعون ما يجري في الدولة الوصية على الحرمين الشريفين، والقوى الكبرى التي تتابع ما يجري في أول دولة منتجة للنفط في العالم.