لا نعثر في قاموس المؤرخين العرب القدماء على كلمة برابرة. الشاعر الاسكندري اليوناني الكبير، قسطنطين كافافس، أخذ عنوان قصيدته من القاموس الإغريقي القديم، الذي تبناه القاموس الروماني قبل أن يتحول إلى كلمة أثيرة في المدونة الفكرية الكولونيالية. كتب كفافي قصيدته كي يعلن أن لا وجود للبرابرة، وأن انتظارهم هو غطاء القمع الذي يمارسه أصحاب السلطة. «لأن الليل أرخى سدوله، والبرابرة لم يأتوا… والآن ومن دون البرابرة ماذا سيحدث لنا هؤلاء البرابرة كانوا حلا من الحلول»(...) أما المؤرخون العرب فلم يستخدموا كلمة برابرة، بل استخدموا عوضا عنها كلمة المغول التي تحولت إلى مرادف للهمجية، منذ اجتياح بغداد الذي قامت به جيوش هولاكو في 10 فبراير 1258. وهو الاجتياح الأكثر وحشية في تاريخ العرب، والذي روى وقائعه المروّعة ابن الأثير في كتابه «البداية والنهاية». وفي الشعر العربي الحديث، لا نعثر على تصادٍ مع قصيدة كفافي، على الرغم من إعجاب إدوارد سعيد الكبير بها، إلى درجة أنها قرئت في مأتمه في كنيسة «ريفير سايد» في نيويورك. لكن محمود درويش قدم معارضة للقصيدة اليونانية في قصيدته «هدنة مع المغول أمام غابة السنديان» (في ديوانه «أرى ما أريد»)، ليكتشف عدم وجود غابة السنديان كي تقام الهدنة في ظلها: «المغُول يريدوننا أَن نكون كما يبتغون لنا أن نكونْ حفنةً من هبوب الغبار على الصين أو فارسٍ، ويريدوننا أَن نُحبَّ أَغانِيَهُمْ كُلَّها كي يَحُلَّ السلامُ الذي يطلبونْ… البنَادِقُ مكسورة.. والحمامُ يطير بعيداً بعيداً.. لم نجد أحداً ههنا لم نجد أَحداً… لم نجد غابة السنديانْ». الشاعر الفلسطيني وجد المغول لكنه لم يجد غابة السنديان كي تكون هناك هدنة. فالهدنة مستحيلة حين يدمّر المغول المكان، ويشردون أهله. قلت إننا لا نعثر على كلمة البربرية أو البرابرة في المدونة التاريخية العربية، وهذا كان صحيحا إلى أن صدر كتاب ميشال سورا «الدولة البربرية في سوريا». مع هذا المستعرب الفرنسي حدث تغير جذري في القاموس العربي، لأن سورا قدّم النصوص الأولى التي تؤرخ للاستبداد الوحشي الذي تخضع له سوريا منذ أكثر من أربعة عقود(...). شهادة سورا ليست خارجية، أي أنها لم تأتِ من التراث الاستشراقي الفرنسي، بل هي شهادة عالم اجتماع، انطلق من الفلسفة الخلدونية ومن مقولة العصبية كي يقدم أول تحليل لهمجية النظام الاستبدادي، ويكسر الصمت المريب الذي أحاط بمجزرة حماه. هنا يبرز بوضوح عماء الجريمة التي ارتكبت ضد هذا المفكر وتفاهتها. خطف سورا في بيروت في 22 ماي 1985 على طريق المطار، وسط حمى خطف الأجانب التي ضربت لبنان في سياق الصعود الإقليمي لإيران، وأعلن عن مقتله في مارس 1986. الرجل الذي عُرف بحبه لسورياولبنان، والذي كان أحد أوائل المتعاطفين مع الإسلام السياسي، لقي حتفه ولم يعثر على بقاياه إلا بعد عشرين سنة من مقتله، حيث وجد مدفونا في منطقة في الضاحية الجنوبية لبيروت تعرف باسم «حرج القتيل»(...) عندما كتب ميشال سورا في أوائل الثمانينات، كانت سوريا مملكة الصمت والخوف. دفع عالم الاجتماع الشجاع ثمن موقفه، وهو في ذلك يشبه الأب باولو الذي يدفع اليوم ثمنا نتمنى ألا يكون مشابها في قبضة دولة «داعش» الهمجية، كما يشبه رزان وسميرة وألوف المناضلات والمناضلين السوريين الذين يواجهون الهمجية بأشكالها المختلفة، بشجاعة ترقى إلى مرتبة البطولة. كتب ميشال سورا وسط صمت شامل، فلم يستمع إليه أحد، ومات ودفن في «حرج القتيل» وحيدا. واليوم وسط صرخة الحرية السورية لم يتغير الكثير، لا أحد يريد أن يسمع، والسوريات والسوريون وحدهم في مواجهة البربرية، لكنهم يعرفون أنهم لا يملكون سوى خيار واحد هو تنفيذ الشعار الأول لثورتهم: «الشعب يريد إسقاط النظام»، وسيسقط هذا النظام لا محالة.