كثيرا ما نسمع من أبناء دائرة البرلماني، مؤاخذتهم على عدم حضوره المستمر في دائرته الانتخابية، حضورا جسديا متواصلا ودائما، ليكتسب (في نظرهم) مشروعية نجاحه في مهمته التمثيلية داخل البرلمان. وإذا كان من حق الناخبين أن يكون هناك تواصل دائم بينهم وبين المنتخب، فإنه لا يجب أن يختزل ذلك التواصل في الحضور الجسدي الدائم بتراب الدائرة، بل يجب أن يتحول إلى نوع من التوازن بين الحضور الوطني داخل البرلمان، والحضور المؤسساتي محليا من خلال مكتب أو أكثر خاص بالنائب البرلماني في دائرته، ليكون آلية للتواصل معه كمؤسسة. إضافة، طبعا، إلى ربط الاتصال المباشر والأسبوعي للبرلماني مع المنتخبين المحليين في دائرته، سواء كانوا ينتمون إلى لونه السياسي، أو كانوا من خارج حزبه السياسي، فهذه هي الوسائل المُثلى لارتباط البرلماني بدائرته. فالدور الحقيقي للبرلماني يكمن، أساسا، في عمله داخل البرلمان، من خلال حضور وتتبع أعمال الجلسات العامة، والمشاركة في أشغال اللجان الدائمة سواء في التشريع أو في مراقبة عمل الحكومة، وهو حضور يتطلب من النائب البرلماني الكثير من الوقت والجهد داخل مقر البرلمان، طبعا، إذا كانت له مسؤولية ورغبة بالمشاركة في العمل البرلماني المباشر، أما أن يترك وظيفته البرلمانية ليظل قابعا جسديا في دائرته الانتخابية، (رغم أن هذا المكوث بدائرته دون الحضور في البرلمان يجعله متهما بارتكاب فعل الغياب الذي أصبح القانون يعاقب عليه)، فإنه يكون برلمانيا بالاسم دون المسمى، خاصة وأن القرارات الكبرى يتم تمريرها ووضعها في العاصمة الرباط وليس في الدوائر المحلية. إن الاشتغال بمسؤولية داخل قبة البرلمان يتطلب الكثير من الوقت، بل أحيانا يتطلب الحضور داخل البرلمان خلال الأسبوع بكامله، من خلال حضور أشغال الجلسات العامة، وأعمال اللجان البرلمانية الدائمة، واللجان الخاصة، والمشاركة في مهام اللجان الاستطلاعية، فضلا عن حضور اجتماعات الفريق النيابي كل أسبوع، والمشاركة في الشعب المتفرقة عنه وعن اللجان الدائمة، والحضور داخل لجان الصداقة، ناهيك إذا كان البرلماني مسؤولا داخل أجهزة البرلمان، حيث تنتظره مهام أخرى أكثر تعقيدا. لا نبالغ إذا قلنا إن من يطلب من البرلماني أن يكون حاضرا جسديا في الدائرة المحلية بصورة دائمة، ليحدث الناس ويجاملهم، ويجالس بعضهم في المقاهي، كشرط للحكم عليه بالنجاح، فإنه يحرف مهمة البرلماني عن وظيفتها القانونية الحقيقية، وينساق وراء ثقافة منتشرة وسائدة لا تطالب البرلماني بالمكوث داخل تراب الدائرة المحلية فقط، بل تطالبه بإصلاح المسالك والطرق المحلية، ومهام نظافة الأحياء وغيرها من أعمال القرب التي هي من اختصاصات الجماعات الترابية، على حساب القضايا العامة. الحقيقة أن دور وواجب البرلماني يكمن في تبليغ مطالب الناس إلى الحكومة، ومساءلتها ومراقبتها في الموضوع، ونقل تلك المطالب العامة عبر القنوات القانونية المضبوطة، وأن يتتبع ويقيم السياسة العامة والعمومية للبلاد، وأن يكون حضوره في البرلمان حضورا إيجابيا، يناقش من خلاله مصالح الأمة ككل، لا مصالحه الخاصة أو مصالح فئات محدودة جدا، لأنه ممثل الأمة ككل، وجزئيا هو ممثل للدائرة الانتخابية التي صوتت عليه، فيراقب الحكومة في القضايا العامة للأمة، وهذا ما ينص عليه القانون، رغم أن الأمور انقلبت، حيث أصبحنا نسجل انتقال بعض البرلمانيين من ممثلين للأمة، إلى ممثلين للجماعات المحدودة وللأفراد. فالأكيد أن مصالح الدائرة المحلية تتقاطع مع مصالح الأمة، وبالتالي فالسعي إلى إيجاد حلول لمشاكل الأمة، هو بالضرورة بحث في حلول ساكنة الدائرة، فالبرلماني الناجح هو من يتحرك برؤية خدمة الأمة ككل، وليس الحديث المستمر عن الدائرة بشكل مجاني، ضمانا لعودته مرة أخرى للبرلمان، متناسيا أن وظيفته الأسمى التي من أجلها انتخب، هي مصلحة الأمة ككل، كما أن البرامج الانتخابية لا توضع فقط، لنيل الأصوات الانتخابية، بل توضع، كذلك، لتكون الإطار العام لعمل البرلماني بشكل قانوني ومسؤول.