شهدت مدينة برشلونة الإسبانية السبت الماضي مسيرة حاشدة للتنديد بالهجوم الإرهابي الذي عرفته المدينة أخيرا. وبقدر ما عبر المتظاهرون عن تعاطفهم مع عائلات الضحايا، وشجبهم مختلف أشكال العنف والإرهاب، بقدر ما عبروا، أيضا، عن وقوفهم ضد كل مظاهر الكراهية والعنصرية الموجهة إلى الجاليات المسلمة المقيمة في المدينة، ورفضهم تحميلها، بأي شكل، تبعات ما حدث. شارك في المسيرة، التي عرفت تغطية إعلامية واسعة، مئات الآلاف من مختلف الأعراق والثقافات والانتماءات السياسية، وندّد المتظاهرون، بشدة، بالهجومين اللذين اهتزت لهما برشلونة وبلدة كامبريلس، رافعين شعار «لستُ خائفا»، مصرّين على الانتصار لقيم التعايش والتسامح الديني والثقافي داخل المدينة. غير أن اللافت في المسيرة كانت الرسالة الدالة التي أراد بعضهم إيصالها إلى من يهمهم الأمر. ففي وقتٍ اعتقد فيه كثيرون أن وجود العاهل الإسباني، فيليبي السادس، ورئيس الحكومة ماريانو راخوي، ومسؤولين كبار في الدولة، في مقدمة المسيرة، سيمثل حدثا في حد ذاته، استثمر قطاع كبير من المتظاهرين ذلك لمحاكمة السياسة الخارجية الإسبانية. لم يكتف هؤلاء بالتنديد بالإرهاب ونبذ العنف الأصولي، بل اعتبروا ما حدث يجد بعض أسبابه في هذه السياسة، من خلال ارتباط كبار رجال الدولة الإسبان بعلاقات مصالح بقوى إقليمية تدعم الإرهاب، وترعى مصادره الفكرية والإيديولوجية. لم يشفع للملك فيليبي أنه كان أول ملك، في تاريخ إسبانيا، يشارك في مسيرة شعبية حاشدة، إذ لم يتردّد متظاهرون في رفع لافتات وشعارات تندّد بعلاقاته مع دوائر السلطة والنفوذ والأعمال في منطقة الشرق الأوسط، لاسيما مع العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز، ودوره في صفقات بيع أسلحةٍ إسبانيةٍ للرياض (إسبانيا ثالث مُورّدِ سلاحٍ إلى السعودية!). وكان لافتا للغاية رفعُ بعضهم صورة الملك سلمان وهو يوشح العاهل الإسباني أثناء زيارة الأخير للمملكة في يناير الماضي، في حين لم يتردد آخرون في الوقوف قريبا من الملك، وإحراجه بلافتات كتب عليها: «فيليبي، إن من يريد السلام، عليه ألا يتاجر في السلاح». وإذا كان محللون رأوا ما حدث في المسيرة أمرا متوقعا، بسبب حالة التقاطب السياسي الحادة بين الحكومتين، المركزية في مدريد والمحلية في كاتالونيا، على خلفية مطالبة الأخيرة بإجراء استفتاءٍ يفضي إلى الاستقلال التام، فإن آخرين اعتبروا ذلك يعكس تحولا داخل الرأي العام الإسباني في ما يخص قضايا الإرهاب. فجزءٌ من هذا الرأي أصبح يدرك أن تنظيم الدولة ليس، في الواقع، إلا أحد مخرجات سياسةٍ ممنهجةٍ تنبني على شبكات نفوذ ومصالح متداخلة، وتقودها وتشرف عليها قوى إقليمية ودولية، لتنفيذ مخططاتها وحماية مصالحها. هذه السياسةُ التي باتت تشكل تهديدا حقيقيا لحياة المدنيين الأبرياء في مختلف مدن أوروبا، يتورّطُ فيها ساسةٌ كبار في دوائر صنع القرار في الغرب، عبر علاقات فسادٍ مشبوهة بمربعات الحكم في أكثر من عاصمة في الشرق الأوسط، الأمر الذي يجعلهم، حسب هذا الرأي العام، يتحملون جزءا غير يسير من المسؤولية عما يحدث من أعمال إرهابية في هذا البلد الأوروبي أو ذاك. مؤكدٌ أن تزايد وتيرة هذه الأعمال في أوروبا يجعل وضع الجاليات العربية والمسلمة محرجا للغاية، إن لم نقل إنه يحول حياتها إلى جحيم لا يطاق، في ظل تنامي خطاب اليمين الشعبوي، لكن، في الوقت نفسه، لا يمكن القفز على تحولٍ يبديه الرأي العام هناك في إدراكه قضايا الإرهاب واشتباكها بلعبة المصالح الكبرى وصراع الأجندات الإقليمية والدولية، خصوصا في ما له صلةٌ بمسؤولية قوى وأطراف، بعينها، عن هذه الموجة غير المسبوقة من الإرهاب الأعمى. الإرهاب حلقات متصلة، وإحدى تلك الحلقات مصادره الفكريةُ والإيديولوجيةُ المترسبةُ عميقا. وبقدر ما تجتهد السياسة والإعلام وشبكات المصالح في إعادة إنتاج هذه المصادر وترويجها والمجازفة بدفعها في اتجاهات شتى دون روية أو تفكير، بقدر ما يَسهل استقطابُ هذه الذئاب البشرية الشاردة، والمستعدة لتكون الحلقة الأكثر مأساوية في كل ذلك. كانت رسالةُ مسيرة برشلونة دالة للغاية، فالإصرار على عدم أخذ الجاليات المسلمة بجريرة منفذي هجومي برشلونة وكامبريلس يعني أن الرأي العام الإسباني يتجه، أكثر فأكثر، نحو بلورة رؤية متكاملة ومتوازنة عن مشكلة الإرهاب. فتورطُ بعض «رموزه السياسية والسيادية» في علاقاتٍ شخصية مريبة مع بعض دوائر صنع القرار في الشرق الأوسط، يجعل الدفع بهذه الجاليات إلى فوهة المدفع نوعا من الحيف والعبث، في ظل ما تبديه الأخيرة من رفض مطلق للإرهاب وتضامن مع ضحاياه.