صعد إلياس العماري، الأمين العام المستقيل من قيادة حزب الأصالة والمعاصرة، سريعا إلى قمّة المشهد الحزبي محمولا على ريع السلطة، ونزل منه بالسرعة نفسها أو تزيد. فالفترة الزمنية بين انتخابه أمينا عاما واستقالته، تتعدى، بالكاد، عاما و6 أشهر، كما أنه رابع الشخصيات التي تعاقبت على قيادة الحزب المذكور خلال تسع سنوات من تأسيسه، فكيف وصل العماري إلى نهايته؟ ولماذا غادر سريعا؟ من خلال تتبع مساره السياسي منذ بداية الألفية الحالية، يمكن القول إن إلياس العماري أثبت أنه رجل سياسة قادر على أن ينال اهتمام الناس في صعوده كما في نزوله؛ شغل الناس بغموضه كما بنفوذه، لكن، منذ فشل حزبه في إلحاق الهزيمة الانتخابية بحزب العدالة والتنمية في انتخابات أكتوبر الماضي، شاع وسط الرأي العام أن غضب «جهات عليا» في السلطة قد نال منه كذلك، وهو في طريقه إلى النهاية تدريجيا. ولج العماري، الذي مازالت سيرته يلاحقها بعض الغموض، الحقل السياسي حاملا في يديه شعار المصالحة مع الريف، الذي عانى التهميش والإقصاء خلال حكم الملك الحسن الثاني. ففي نهاية التسعينات، أسس جمعية تُعنى بمخلفات الحرب الإسبانية في الريف، وبواسطتها تعرف على شخصيات ومسؤولين، خاصة في وزارة الداخلية حينها، من بينهم فؤاد عالي الهمة. وفي ركاب عالي الهمّة (المستشار الملكي حاليا)، أصبح العماري طرفا فاعلا في كل المبادرات التي تم إعلانها، وميّزت حكم الملك محمد السادس خلال العشرية الأولى من حكمه. عُرف العماري، مثلا، ب«صاحب الظهيرين»، ففي سنتين فقط، 2002 و2003، عُين العماري في مؤسستين على درجة كبيرة من الأهمية والحساسية، هما المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، والهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، كما كان مشاركا في إنشاء «هيئة الإنصاف والمصالحة» التي جمعت بين قيادات اليسار الجديد سابقا، أمثال إدريس بنزكري وأحمد حرزني وصلاح الوديع، إلى جانب حقوقيين وسياسيين محسوبين على السلطة. كان العماري ضمن هؤلاء، لكنه الوحيد الذي استطاع أن يصبح نجما من بينهم. يروي مصدر مقرب من العماري أن «حكاية الحزب (الأصالة والمعاصرة) انطلقت في لقاء شهير ضم كوكبة من وجوه هيئة الإنصاف والمصالحة بقيادة الراحل إدريس بنزكري، هناك قرّر إلياس حمل المشعل والحفاظ على إرث بنزكري، مثلما يتعهّد إرث الدكتور عمر الخطابي». قدّم العماري نفسه حاملا رسالتين؛ الأولى رسالة بنزكري على رأس «هيئة الإنصاف والمصالحة»، والتي يرى أنها لم تكتمل بعد، والثانية رسالة المصالحة مع الريف. وبفضل هذا الدور الذي أراد لعبه، وحاجة الدولة إلى تجاوز أخطاء نظام الحسن الثاني وبناء شرعيات وتوازنات جديدة، أصبح إلياس في قلب المعادلات السياسية، وربما حتى الأمنية في البلاد. استفاد العماري جيدا من الوضعية التي وجد نفسه فيها مسنودا بصديقه فؤاد عالي الهمة، أي في قلب السلطة والمال والجاه. ولكي ينتزع ما يريد، وظّف ورقة التخويف من الإسلاميين، خاصة حزب العدالة والتنمية، علما أن هذه الورقة تستعملها في العادة الأنظمة السياسية، وبالأخص أذرعها الأمنية. لكن صعود إلياس لن يكون بلا ثمن. تدريجيا، أصبح أعداؤه أكثر من أصدقائه. في الظاهر، هناك عبد الإله بنكيران وحزب العدالة والتنمية، الذي لم يعترف يوما بقوة ونفوذ إلياس العماري، كما رفض الاعتراف سياسيا بحزب الأصالة والمعاصرة. وفي الخفاء، هناك مؤسسات أخرى لا تطمئن للسياسيين بسهولة، خاصة إذا عبروا، من حين لآخر، عن رؤية أو مواقف مناوئة لها. تلقى العماري الضربة الأولى إبان ثورات الربيع العربي، حيث اضطر إلى مغادرة التراب الوطني نحو فرنسا بحجة التفرغ للدراسة، ومارست عليه حركة 20 فبراير، وعلى المقربين منه في محيط القصر، ضغوطا كبيرة، وهي الفرصة التي استفاد منها خصومه كذلك بتوجيه ضربات قوية إليه، كانت أشدها قسوة تلك التي تضمنت مطالب بحلّ حزب الأصالة والمعاصرة، من قبل بنكيران بالأساس. ورغم ذلك، عرف العماري كيف يعود إلى الواجهة من جديد منذ 2012، مستفيدا من الظروف الإقليمية التي تحول معها الربيع العربي إلى خريف، محاولا، بكل الأساليب الممكنة، الإطاحة بتجربة حكومة بنكيران. وقالت مصادر مقربة من الرجل إنه كان، بشكل أو بآخر، وراء انسحاب حزب الاستقلال من الحكومة، كما أسهم في دفع آخرين إلى ممارسة دور المعارضة من داخلها (بعض وزراء الأحرار). فشل مزدوج لكن الفشل كان حليفه مرتين؛ الأولى أنه لم ينجح في الإطاحة بحكومة بنكيران التي أكملت ولايتها لخمس سنوات غير منقوصة، والثانية فشله السياسي في الفوز بانتخابات 4 شتنبر 2015 الجماعية والجهوية، ثم فشله مرة أخرى في الفوز السياسي بالانتخابات التشريعية ليوم 7 أكتوبر 2016. في سنة 2015، لجأ العماري إلى نفوذه في الإدارة وداخل الأحزاب لتعويض فشله الانتخابي برئاسة خمس جهات، منها ثلاث لم تكن أحزاب المعارضة السابقة تتوفر فيها على الأغلبية. كما حاول، عبر حزبه الأصالة والمعاصرة، الاستحواذ على تسيير ورئاسة أكبر عدد ممكن من المجالس الجماعية، وإن كان أغلبها يقع في العالم القروي. وبعد انتخابات 7 أكتوبر 2016، حاول تجاوز فشل حزبه في احتلال المرتبة الأولى بالعمل على إفشال ميلاد الحكومة التي كلف بتشكيلها عبد الإله بنكيران، الأمين العام للعدالة والتنمية الفائز الانتخابات. فكان ذلك اللقاء الشهير الذي انعقد في بيت إدريس لشكر (الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) يوم 8 أكتوبر، وهو اللقاء الذي فضحه أحد المشاركين فيه (حميد شباط، الأمين العام لحزب الاستقلال). وتقول مصادر مطلعة إنه عمل كذلك على «دفع» بعض «المحللين» للترويج مسبقا لإمكانية المرور إلى الحزب الثاني، من خلال تأويل مثير لدستور 2011. ارتدادات 7 أكتوبر بعد انتكاسة 7 أكتوبر، ظهر أن إلياس العماري في طريقه إلى التواري عن المشهد السياسي، ليس لأنه فشل في إلحاق الهزيمة بغريمه السياسي، عبد الإله بنكيران، بل لأن الجهات التي دافعت عنه ومكّنته من كل الوسائل لتحقيق هذا الهدف، شرعت في ترتيبات جديدة، كان العماري أبرز الغائبين عنها. أولى تلك الترتيبات، التي أكدت أن تلك الجهات طلّقت العماري، استدعاء عزيز أخنوش، رجل المال والأعمال، من خارج الساحة السياسية التي غادرها سنة 2012 ببلاغ رسمي، إلى رئاسة التجمع الوطني للأحرار، الذي غادره أمينه العام السابق، صلاح الدين مزوار، في صمت ودون أي رد فعل. وفي رأي سياسي ووزير سابق، فإن أخنوش أصبح هو «رجل القصر» في الحقل الحزبي، وهو «من بات مكلفا بكل الأعمال الخفية، وبالمناورات من أجل ضبط المشهد وفق الرؤية التي تخدم السلطة». ما يزكي هذا الطرح هو الدور الذي قام به أخنوش خلال مرحلة «البلوكاج» الحكومي، الذي انتهى بإبعاد عبد الإله بنكيران، رمز قوة العدالة والتنمية، عن تشكيل الحكومة، وإن كانت قد أسندت المهمة نفسها إلى شخص آخر من حزب المصباح هو سعد الدين العثماني. مصطفى اليحياوي، أستاذ الجغرافيا السياسية بكلية الآداب بالمحمدية، يضيف عاملا آخر يتعلق بتعبير العماري علانية عن نوع من الإحساس ب«العار الاجتماعي» بسبب عدم قدرته على تفادي التدبير الأمني لحراك الريف، الذي تجمعه بأفراد مجتمعه المحلي الهوية الثقافية وماضيه اليساري، والتزاماته الانتخابية في الاستحقاقات الجهوية ل4 شتنبر 2015. لقد ظهر إلياس العماري على هامش أحداث الحسيمة، بل ربما تم تهميشه، على خلاف الدور الذي قام به في أزمة مماثلة سنة 2010 في أحداث «أكديم إيزيك»، وربما هذا بالضبط ما جعله ينتقد «المقاربة الأمنية»، ما جرّ عليه غضبا إضافيا من الجهات العليا. وفي رأي اليحياوي، فقد تبين للدولة، منذ سنتين على الأقل، أنها «تخسر» باستمرار مع العماري، إذ «فقدت الكثير من قوتها الاستباقية للأحداث بسبب فشلها في احتواء مضاعفات الأزمة الاقتصادية، واختلالات التوزيع المجالي للتنمية، وتسارع التحولات القيمية للمجتمع، وارتفاع أصوات الاحتجاجات الشعبية على تردي خدمات الديمقراطية المحلية»، وهي عوامل «لم يعد معها للدولة ولآلياتها المؤسساتية، الخاصة بالتنظيم والضبط والوساطة، هوامش كبيرة للتفاعل إيجابيا مع الطلب الشعبي المتزايد على الحرية والعدالة الاجتماعية والإنصاف». خطبة وداع العماري في هذا السياق المحتقن، أعلن إلياس العماري استقالته رسميا من الأمانة العامة لحزبه في اجتماع للمكتب السياسي يوم الاثنين 7 غشت الجاري، وفي اليوم الموالي خرج للقول، في ندوة صحافية، إن القرار «قرار شخصي»، و«ليست له طبيعة ظرفية أو لحظية، ولا هو من أجل المزايدة على أحد في المشهد السياسي». خطبة وداع العماري كانت مرتجلة، وقدم خلالها تفسيرا «ذاتيا» لنهايته. وقال في هذا الصدد: «قبل أن ينتهي اجتماع المكتب السياسي، لم أكن مقتنعا بقرار الاستقالة، لكن حينما استمعت إلى تقارير حول أداء المنتخبين في مجالس الجماعات ومجالس الأقاليم والجهات، ثم إلى تدخلات ومناقشات أعضاء المكتب السياسي، قررت أن أستقيل». ومن أجل مزيد من الإيضاح، أضاف: «البارحة كان لدينا تقييم للانتخابات الجماعية أو التشريعية، وتقييم لأداء الحزب في المجالس الجماعية والجهوية، سواء التي يترأسها أو يشارك فيها، وحتى أداءه في المعارضة، ثم استمعنا إلى تقريرين حول أداء فريقي الحزب في مجلسي البرلمان، وقد تبّين لي أن رؤساء الجماعات والمجالس ممن يريدون العمل ليس لديهم إمكانات، فيما آخرون لم يلتزموا بالوعود التي قدموها للناس، ورأيت أن بعض أعضاء الحزب في البرلمان يتغيبون بشكل متعمد عن الجلسات، فقلت لنفسي لا يمكن أن نحاسب كل هؤلاء لوحدهم، أنا أيضا يجب أن أعاقب، لأنني أنا من زكى هؤلاء باسم الحزب في الانتخابات». لقد ربط العماري انسحابه من المشهد السياسي بضعف أداء منتخبي حزب الجرار في المجالس التي يرأسها، في الوقت الذي نفى بشدة أن يكون القرار نتيجة إشارات أو تعليمات أمرته بالانصراف، وقال: «لست ممن يقبل التعليمات، لا من الأعلى ولا من الأسفل، ومن يعرف إلياس يدرك جيدا أنه لا يتلقى التعليمات، لم يسبق أن نفذت قرار أحد، وما عمرني خمّست عند شي حد، وأقول دائما إن زمن الإشارات قد ولى، ومن لديه رسالة يجب أن يبلغها لي بشكل مباشر». لكن إلياس ميّز بين الاستقالة من قيادة حزبه، والاستقالة من رئاسة جهة طنجة-تطوان-الحسيمة، ففي الوقت الذي عبّر عن افتخاره بالأولى، رفض الإقدام على الثانية، وأوضح قائلا: «أنا منتخب، ولا حق لأي كان أن يقيلني. كنت أمينا عاما بقرار فردي اتخذته، وبتزكية سياسية من مناضلي الحزب، أما في الجهة فالقرار ليس فرديا، وبالتالي، ليس من حقي أن أنسحب، لأن لي حلفاء وشركاء، وليس من طبعي أن أخون الشركاء، أو أن أنقلب عليهم». ولم يشر إلياس العماري في كلمته إلى تزامن قرار الاستقالة مع الخطاب الملكي الأخير بمناسبة عيد العرش، الذي انتقد فيه الطبقة السياسية بشدة، لكن، في ردّه على أسئلة الصحافيين، اعتبر أنه معني بما ورد في الخطاب الملكي من انتقادات حادة للأحزاب. «أنا أقول إنني معني سياسيا بالخطاب الملكي، كما أني أفتخر بالتزامن بين الخطاب وقرار استقالتي»، ومضى قائلا: «لكني لا أعتبر استقالتي صحوة ضمير، لأن ضميري كان صاحيا باستمرار. هل أخطأت يوم ترشحت للأمانة العامة؟ ليس لدي جواب الآن». في المقابل، رفض العماري الربط بين استقالته وبين قضيتين اثنتين؛ الأولى أن تكون استقالته جاءت رد فعل متأخر على هزيمة حزبه في انتخابات 7 أكتوبر الماضي أمام حزب العدالة والتنمية، إذ ردّ بالقول: «لم نُهزم، وأتذكر أن المكتب السياسي لحزبنا اجتمع ساعات بعد إعلان النتائج، وهنأ نفسه وأعضاء الحزب بما حققناه. لم نقل يوما إننا نسعى إلى المرتبة الأولى، بل قلت إننا نريد تصدر المشهد السياسي، وهذا تطلع مشروع لأي حزب سياسي»، أما القضية الثانية فتتعلق بأحداث الحسيمة، إذ قال: «لا علاقة للحسيمة بهذا القرار»، وواصل بالقول: «أنا فخور بانتمائي إلى الحسيمة، حتى لو سبّني أبناؤها. أنا أصبر على شتائم خصومي، فكيف بعائلتي. أبناء الحسيمة هم عائلتي، ومهما شتموني فلن يزيدني ذلك إلا حبا فيهم، وفي المنطقة التي أنتمي إليها». ما وراء الاستقالة لم يقتنع جل من استمع إلى العماري بمبرراته، وظهر أنه يخفي أكثر مما يعلن. في هذا السياق، اعتبر وزير سابق ومطلع جيد على اللعبة السياسية في المغرب أن «استقالة العماري هي تتويج لمسار من التهميش والإبعاد بدأ بعد إعلان نتائج الانتخابات التشريعية ليوم 7 أكتوبر 2016»، مؤكدا: «بعد تضخم الحديث عن دور نافذ ومؤثر، بدا بعد تلك الانتخابات وكأنه فقد مكانته السابقة». مصطفى السحيمي، المحلل السياسي وأستاذ العلوم السياسية، ربط، بدوره، بين خطوة استقالة العماري وتطورات المشهد السياسي بعد انتخابات 7 أكتوبر 2016، مؤكدا أن قرار الاستقالة هو نتيجة ل«فشل حزب الأصالة والمعاصرة في الحصول على المرتبة الأولى في انتخابات 7 أكتوبر»، كما أنه ردّ فعل على قرار «تعويضه بأخنوش، رئيس التجمع الوطني للأحرار، الذي جيء به من خارج الساحة السياسية لرئاسة حزب التجمع الوطني للأحرار، لكي يمارس المهام نفسها التي كانت موكولة إلى العماري في وقت سابق». غير أن استقالة العماري لا يبدو أنها ستقف عنده شخصيا، بل قد تتعدى إلى التأثير على دور حزبه ومستقبله السياسي. أحمد البوز، أستاذ العلوم السياسية، يعتبر أن استقالة إلياس تعني «نهاية حزب الأصالة والمعاصرة كمخطط وليس كحزب»، مؤكدا أن «البام، كمشروع لإعادة هيكلة المشهد السياسي، أبان عن محدوديته منذ حركة 20 فبراير، وهو الآن بصدد نهايته».