لأول مرة منذ تعيينه رئيسا للحكومة منذ أكثر من سنتين، اعترف عبد الإله بنكيران أنه لم يكن مقتنعا بجميع الأشخاص الذين أفرزتهم الآلية التشاورية لحزبه ليرشحهم للاستوزار. وأوضح بنكيران في بوح غير مسبوق، أنه امتثل ل «الآلية» التي قامت بالدوران، في إشارة إلى الآلية التشاورية التي اعتمدها الحزب، والتي قال، إنها لم تفرز الأسماء التي كان يقوم باقتراحها. قدّم رئيس الحكومة والأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، مادة غنية وطافحة بالدلالات والإشارات، خلال مشاركته، في منتدى جمعية طلبة خريجي المعهد العالي للقضاء. مادة تتمثل في أكثر من ثلاث ساعات من النقاش المفتوح حول السياسة والأحزاب والملكية والديمقراطية، على لسان رئيس الحكومة في عزّ ممارسته لمهامه واضطلاعه بمسؤولية قيادة الجهاز التنفيذي. حديث عفوي في لحظات الانفعال و «النرفزة»، وآخر متقن التسديد والترميز، يكشف عن بعض من الخفايا الكامنة في العقل السياسي المغربي، والخلفية التي تحكم تحرّكات وقرارات أحد أهم الفاعلين الحزبيين في المشهد السياسي الحالي. رئيس حكومة دستور الربيع العربي، حلّ على هذا المنتدى الذي استضاف أربعة أمناء عامين للأحزاب السياسية قبله، ليجدّد التذكير بحرصه الكبير والاستراتيجي على حماية علاقته مع المؤسسة الملكية من أي خلاف أو اصطدام أو صراع. حرص وضع بنكيران في مقابله دعوة صريحة إلى الاستمرار في نهج الديمقراطية والاحتكام إلى نتائجها كسبيل وحيد برأيه لضمان استمرار «الإصلاح في ظل الاستقرار». معادلة يبدو رئيس الحكومة وزعيم أكبر حزب سياسي في البرلمان الحالي، عازما على التشبّث بها، لكنه لم يستطع إخفاء شعوره بالخوف على حزبه من مخاطر الاختراق والتحطيم من الداخل.
أبقيت الضحاك والوديي وتراجعت عن تغيير التوفيق بعد أكثر من سنتين عن تعيينه رئيسا للحكومة، عاد عبد الإله بنكيران إلى بعض من أسرار وكواليس مشاورات تشكيل حكومته الأولى، بعدما تلقى أسئلة حول «حزب التكنوقراط»، وسبب قبوله بمنحه حقائب هامة في حكومته. «أقسم بالله ما قالي شي حد خلي السي إدريس الضحاك أمين عام للحكومة، لكنه رجل متمكن من القانون ولبق، ولهذا لم نغيّره، السيد عبد اللطيف الوديي أيضا وجدناه رجلا ممتازا ناجحا في إدارة الدفاع الوطني ما قربنالوش وأقسم بالله ما شي حد قالنا خليوه»، يقول رئيس الحكومة مدافعا عن تقنوقراطييه، مضيفا أن «هاد البلاد فيها جلالة الملك وعندو مجالات ورأي، واللائحة كلها أنا من رشحها، ولو لم يوافق لما كانت، وافترضوا أن جلالة الملك اقترح علي شخصا، عندكوم شي مشكل؟». استنكار بصوت عال أثار ضحك الحاضرين في مدرّج المدرسة الوطنية للإدارة، قبل أن ينتقل بنكيران إلى الإقرار بكون وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية اقترح عليه من جانب الملك. «اقتُرح علي وزير الأوقاف، وكان في بالي العثماني الذي ما بغاش والسي بنحمزة ما بغاش، والسي التوفيق صديق أعزه، لكن في تقديري أنه كان بعد عشر سنوات باراكا، وفي الأخير عدنا إلى مقترح جلالة الملك، وما عمرو ما لزم عليا شي واحد». اعتراف آخر قام به رئيس الحكومة، ويتعلّق بمنصب سام قال، إنه كان موضوع تعيين مؤخرا، «هناك «بوسط» من صلاحيتي الاقتراح فيه، وأعدته إلى جلالة الملك، وقلت ما غاديش نرشح فيه لأنني لا أعرف أحدا مناسبا، وبقينا حتى لقينا الشخص المناسب بمبادرة من وزير الداخلية، آش بغيتو فينا أنا ما غانديرش شدلي نقطعليك». ودون أن يسأله أحد عن مولاي حفيظ العلمي، قال بنكيران، إن رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار هو الذي اقترحه، «وما زلت سعيدا بذلك إلى الآن، لماذا تريدونها حكومة من السياسيين فقط؟ إذا كان هناك شخص جيد لم لا نقترحه، وأنا المسؤول عنه». حديث ناقضه رئيس الحكومة في سياق آخر، حين كان يحاول حثّ الأطر الشابة على الالتحاق بالأحزاب السياسية، «لا يمكنك أن تختار إلا من اللعايبية للي عندك، وليس من رأى أن السياسة صعبة وخطيرة وفيها الصحافة تتحدث، وذهب بسلام يصنع مكانه في الإدارة، هذا لا يمكن أن ننادي عليه ليكون وزيرا»، يقول بنكيران، مضيفا: «يلا بغيتو تخدمو بلادكوم بالمعقول لا خيار لكم، لابد تدخلو للأحزاب السياسية، وفي النهاية، إن لم يكن الحزب فاسدا، ستصلون».
السلطة تغيّر الانسان عودة أخرى إلى العلاقة مع المؤسسة الملكية، فتحها رئيس الحكومة بإثارته موضوع قانون «ما للملك وما لبنكيران». هذا الأخير بادر إلى فتح الموضوع قائلا، إن أخبارا راجت تفيد أنه تنازل للملك عن كثير من صلاحياته، بمناسبة تحديد لائحة المؤسسات الاستراتيجية التي يجب أن يتولى الملك تعيين رؤسائها. «البعض قال إنها يجب ألا تتجاوز ست أو سبع مؤسسات، لكنني لا أفهم تنزيل الدستور بكونه الدخول في مشاداة مع جلالة الملك، المهم أن التعيينات تتم في الحالتين باقتراح مني، البعض يعتقد أنني سأكمل مسارهم السياسي، بينما أنا لي مسار سياسي خاص بي، والعلاقة يجب أن تكون تعاون وليس صراع». رئيس الفريق البرلماني لحزب العدالة والتنمية بمجلس النواب، عبد الله بوانو، والذي كان حاضرا في اللقاء، بادر إلى إمداد بنكيران بالرقم الخاص بعدد المناصب التي يمكنه التعيين فيها، وهو 1182 منصبا. «كاين للي حافظهوم كاع»، يقول بنكيران تعليقا على تدخل بوانو، مضيفا أنه وفي المقابل، يعيّن المجلس الوزاري في نحو 40 منصبا. «ومعظم الذين عيناهم لا نعرفهم بالتفاصيل لأن الذي يعين هو الوزير من خلال لجنة، وأنا أبني على الثقة في الوزراء، وحتى من يعيّن في مجلس الوزراء، يلا كان ما مزيانش غادي نتكلم مع جلالة الملك ويتغير، وبالتجربة كلما اقترحت إلى جلالة الملك كان الرد إيجابيا». منصب رئيس الحكومة له ما قبله وما بعده حسب عبد الإله بنكيران. «قبل أن آتي إليه كان في بالي عدة ملفات، وبعد الوصول إليه اكتشفت كثرة الملفات وعمقها. كل شيء فيه أزمة، العدل والتعليم والحكامة الانتخابية وحوادث السير والمستشفيات والمستعجلات والرشوة والمساطر الإدارية... هذه الملفات والقضايا الكبرى كلها تحتاج إلى إصلاح، زد عليها المقاصة والتقاعد، كلشي كايغوت، وكل واحدة تحتاج إلى مجهود كبير جدا». ويضيف رئيس الحكومة بعد سنتين من التجربة، أنه «ليس هناك حزب يمكنه أن يأتي ليحكم والسلام، أو ليشارك في الحكومة فقط، أو ليسيّر اليومي فقط، نحن أمام مشاكل حقيقية، وقد اكتشفت أن الإصلاح ليس بالسهولة التي كنت أتصور، لأنني أواجه مشاكل لم أكن أتخيلها، وتأتي ممن كنت أتوقع أن يكونوا شركاء في الإصلاح أو على الأقل لا يقفوا في وجهنا». الوصول إلى السلطة يحدث تحولات في الإنسان حسب بنكيران، «لما يصل الإنسان إلى السلطة يصل إلى عالم جديد، يصبح عندك مكتب وكاتبات وتلفون وسيارة وحكايات، يلا جبتي معاك شي رصيد قوي راه غادي يدي منك بمقدار، ويلا كنتي عيان راك غا توصل غاتدوخ وتشوف داكشي وتقول ناري ميمتي يلا مشاليا هادشي كيفاش... بالنسبة لي لحد، الآن الأمور سليمة الحمد لله».
وزراء من ال «بي جي دي» لا يستحقون المنصب مظاهر تميّز ومناعة حزبه التي سردها بنكيران بشكل مسهب، لم تمنعه من الاعتراف بالمخاوف التي تساوره ضمن القيادة الحالية لحزب المصباح بخصوص مستقبل الحزب. بنكيران قال، إن السياق الذي نشأت فيه المجموعة المؤسسة للعدالة والتنمية، فرضت عليها اعتماد الديمقراطية في اتخاذ القرار واختيار القيادة، وذلك نظرا لكونهم جميعا من نفس الجيل. «تخلصنا من الشيوخ بقدرة الله»، يقول بنكيران في إشارة إلى رحيل عبد الكريم مطيع وباقي قياديي الشبيبة الإسلامية نهاية السبعينيات. «الشيوخ مشكلة، قد تستفيد منهم لكنهم قد يهيمنون عليكم...». التعبير عن المخاوف من مصير الحزب الفتي، جسّدها بنكيران في نقاشات تجمعه بعلبته السوداء عبد الله بها. «بيني وبين بها حديث مستمر عن التخوف على الحزب في حالة ما إذا جاء شخص مع عائلته وأصدقائه، فمثل هذا الشخص يمكنك أن تقول ما شئت فهو يصوت على أسماء معينة، وهذا وقع لنا في دوائر حرجة، ومرة حدث لنا في دائرة الرميد، وبها يقول لي لا تخف لأن الجسم السليم سيحاصر هذا المرض ويعزله إن حصل». طمأنة يبدو أنها لا تقنع الأمين العام لحزب المصباح كثيرا، «هناك احتياط ضروري، فالأشخاص القادمون بنوايا سيئة تكون لهم قدرات سياسية رهيبة ولا ينتبه الناس إليهم، بل يحاولون الاستفادة من هؤلاء العفاريت القادرين على أن يضمنوا لزعمائهم المقاعد والمكانة، لكن الخطر هو أنه بمجرد ما تقبل بالاستفادة منهم، تحدث أسئلة في ذهن هذا الشخص، ويقول علاش بالسلامة نوصلو هو، مادام وصلتو هو نجي أنا فمكانو، علاش هو مو ولداتو فخرقة بيضة وأنا لا؟ «. بوح تلاه اعتراف آخر غير مسبوق، حيث أقر بنكيران بعدم رضاه على التشكيلة الوزارية التي دخل بها حزبه الحكومة الحالية. بنكيران قال، إن اختيار وزراء حزبه تم بطريقة سريعة وتحت ضغط كبير. انطلقت العملية في العاشرة من صباح أحد أيام دجنبر 2011، وكان إفراز كل اسم يتطلّب ساعة إلى ساعتين من التداول والانتخاب، «ولم يكن الاسم الذي أقترحه هو الذي يصعد دائما». والضغط الأكبر سيأتي في المساء، حين تلقى بنكيران مكالمة من الديوان الملكي، تقول بضرورة تقديم لائحة الوزراء في تلك الليلة. «لم أكن أعتقد أن الأمر كذلك، وأنني مطالب بتقديم اللائحة في اليوم نفسه... الحمد لله لم تصر كلمة واحدة من داخل الحزب لانتقاد الأشخاص الذين اخترناهم للاستوزار، لكنني ممن يعتقدون أن بعض الإخوان ما خاصهومش يكونوا وزراء، لكن الآلية دارت وأعطت 14 اسم وكان علينا أن نختار منهم»، وبعد انتباهه إلى خطورة اعترافاته هذه، استدرك بنكيران بالقول: «هاد المحاضرة يا ربي ما تجبدش لينا المشاكل مع دياولنا هوما الأولين».
المغاربة صوتوا على «المعقول» وليس على البرنامج تعريف آخر للعملية السياسية وكيفية قيام المغاربة باختيارهم الانتخابي، قدّمه رئيس الحكومة بالمناسبة نفسها. «العمل السياسي في بلادنا قائم على الاقتناع وليس الإنتماء، يلا بنتي للمواطن معقول، وغادي مزيان، راه غادي يبقى معاك، وإلا ما تعولش عليه». وحين طُرح عليه سؤال مدى التزامه بالبرنامج الانتخابي لحزبه، قال بنكيران: «لا استطيع أن أقول لكم، إن المواطنين يصوتون علينا على أساس البرنامج، بل ينظرون إلى استقامة الأشخاص ومسار الأحزاب، صحيح هناك مناطق لا تعرف إلا الفقيه والمقدم، والأصوات كلها تذهب إلى اتجاه واحد، لكن المدن هي التي تعنينا، فالناس ينظرون إلى مسار الحزب». التاريخ الذي انعقد فيه اللقاء، والمتمثل في 20 فبراير، لم يخيّم كثيرا على مضامينه. بنكيران اكتفى بترديد عباراته المعتادة المحذرة من السقوط في الأخطار التي أصابت دولا مجاورة، وذكّر الحاضرين بكونهم يجلسون بكل أمان ويناقشون شؤون البلاد بكل طمأنينة. «نحن نمرّ بمرحلة اضطرابات جوية، ونرى ماذا يقع في خارطتنا: تهديدات بالتحكم المطلق وتهديدات بالفوضى والاضطراب، في مقابل تجربة ناشئة عمرها يتجاوز خمسين سنة تحقق تقدما مرافقا بآلام، لكننا لا نريد أن تنتكس». انتكاس قال بنكيران، إن شرطه الأول هو عدم التراجع عن الخيار الديمقراطي. «أمام كل مؤسسات الدولة طريق واحدة هي الاستمرار في المعقول والتنافس، وإذا فعلنا ذلك سنربح كل رهاناتنا، إذا ما احترمنا الديمقراطية داخل الأحزاب وفي المؤسسات والدولة، ستنتهي كل مشاكلنا، بما فيها مشكل الأقاليم الجنوبية، والمشكل مع الجزائر...». أما حزبه، أي العدالة والتنمية، فهو إسلامي وسيبقى إسلامي. «لا يمكن أن نتخلى عن مرجعيتنا الإسلامية لأنها لصيقة بنا، وبها كنا منذ البداية... لكن من ينتظر أن يرى فينا الصحابة فنحن لسنا الصحابة، بل ننتمي لهذا القرن الذي بيه دوزيم والآيباد... الصحابة مضمونا وليسوا أشكالا».
لن نعاقب الكروج لمجرّد «الشبهة» في مقابل عبارة «للي حصل يودي» التي تضمّنها أحد أجوبة بنكيران المتعلقة بقضية «الشكلاط» الشهيرة التي يتهم فيها الوزير عبد العظيم الكروج بشراء كمية من «الشوكولا» من حساب الدولة؛ قال رئيس الحكومة، إن هذه القضية لم تزعج أحدا أكثر مما أزعجته هو شخصيا. «وطلبت من السيد العنصر تدبير القضية، والتقرير الذي جلب لي هو ووزير الوظيفة العمومية هو أن الفاتورة لم تؤدى من ميزانية الوزارة، ويلا كان شي حد عندو الديليل يقدمو، لكن لا يمكن مؤاخذة أحد بالشبهة، ما عنديش اليقين، وهو جا عندي وجابليا الفاتورة باسم عائلته، ولا يمكن أن أعرض الحكومة للزعزعة وأوقفه».
قضية اللقاحات سنتابعها وبنكيران ما قادرش يواجه الفساد بوحدو ردا على سؤال حول ما ستفعله حكومته بعد صدور تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول صفقة اللقاحات الشهيرة التي تمت في عهد الوزيرة الاستقلالية السابقة ياسمينة بادو، قال رئيس الحكومة، إن «كل حاجة غادي نتابعوها بمقدار، ولن نترك شيئا سدى، اليوم هناك صحافة تتكلم وقضاة يعزلون، هناك دينامية يمكن أن تساعدني في المضي في اتجاه معين، لكن بنكيران ما قادرش يواجه الفساد بوحدو».
20 فبراير ظاهرة في جواب آخر عن سؤال مباشر يتعلق بحركة «20 فبراير»، التي تزامن اللقاء مع ذكراها الثالثة، قال بنكيران، إن للمجتمعات ظواهر، «والعالم العربي عاش هذه الظواهر ونحن عشناها بمقدار، وتعاملنا معها بإيجابية جعلتنا اليوم نجلس هنا، ونتناقش بشكل ديمقراطي، والمهم أن نستفيد ونبني المستقبل بعدالة أكبر».