حمل صاحبي نقيب هيئة المحامين إلى وزير العدل رسالة احتجاج شفوية من القضاة، فقد عابوا على جِهَتَي التحكم انتقاءهما لقضاة محكمتهما من مدينة معينة بدون ضوابط، فأجابه نائب رئيس المجلس الأعلى للقضاء آنذاك قائلا: لا يمكنني أن أرد لائحة اقتراحات المسؤولين القَضَائِيَيْنِ، أكتفي فقط بتزكيتها!! فسقط الوزير من عيني المحامي!! وقد ترجم هذا المعنى زمنا ذلك المسؤول القضائي الذي أقفل باب المحكمة بالمزلاج وذهب إلى حال سبيله، وهو الذي أتيحت له بعدها فرص ذهبية ليمثل القضاة ويعمل خارج أرض الوطن بذات الكيفية التي أوصد بها محكمته!! هذه محكمتي، لسان حال من لا يميز بين حق الملكية الذي يُخَوِلُّ صاحبه سلطة التصرف والاستعمال والاستغلال وبين التسيير الإداري الذي هو مجرد وظيفة تمنح صاحبها صلاحيات الإشراف والتصريف العاقل للمرفق الذي كلف به بدون زيادة ولا نقصان. ولعل هذا الالتباس في فهم المعنى عن إصرار وعمد هو الذي صنع من دُمَى الواجهة فراعنة إداراتهم فأساءوا إلى أنفسهم وإلى العاملين معهم سواء بسواء!! فعندما تلكأ أحدهم في تعليق ملحق خاص بحفل توقيع كتاب "القاضي المبني للمجهول" الذي نظمه المنتدى المغربي للقضاة الباحثين، تذكرت زميله المعاق الذي أجاب من استأذنه في وضع لافتة لنا تشهر ندوة تندرج ضمن الندوات التي نظمت بمناسبة ورش الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة قائلا: هذه محكمتي أفعل بها ما أشاء!! وهما معا كرسا الاجتهاد القضائي الذي دأب عليه رئيس محكمة نقض سابق عندما كان يعلن جهارا: هذه محكمتي، أختار للعمل بها من أشاء! ولم يكن وزراء العدل المتتابعين يرفضون له طلبا!! هذا الاعتقاد الخاطئ، ينفح في أوداج صاحبه فقاعات العظمة والاستقواء، فينجز لتفعيله برنامجا محكم الإتقان، فلا تكاد تَمْرُقُ شائبة قد تعكر الأجواء إلاّ وتصدى لها بالمكر أحيانا وبالعنف الزائد في أحايين أخرى. ولعل هذا هو سر تردي وتراجع المرافق العمومية بوجه عام والمرفق القضائي على وجه الخصوص، فَالحَاكِمُ بأمره من هذا الفصيل لا يقبل مطلقا أن ينفلت الزمام من بين أصابعه أو خلف ظهره، أو حتى التفكير بذلك، وهو ما فعله أحدهم عندما عين إنسانا أَهْبَلاً لينوب عنه أو اكتفى بكاتبته الخاصة الأثيرة!! تفاعل المتهافتون مع هذا الاعتقاد الواهم، فسلكوا أقصر السبل وأنجعها لتحقيق المراد. فتمايلت كَفَّةُ الميزان على مر الزمن القضائي تزامنا مع تقل الكفة اليمنى أو اليسرى بِحَسَبِ الأحوال، في الوقت الذي يفترض فيه أن يكون القضاء نبراس الحياد والاستقلال والشفافية، لحمته وسداه ومضرب المثل في الجد لا الهزل !! وتفاعل المتهافتون مع ذلك الاعتقاد الواهم أيضا على مستوى إعداد النصوص القانونية التنظيمية للسلطة القضائية والقضاة، ووجدتُ من ينادي جهارا بِابْتِدَاع نظام العتبة في الجمعيات المهنية كأننا حزب سياسي، ومن يولى رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية الإذن لإنشائها من عدمه، من يُسْنِدُ للمسؤول القضائي سلطة اخْتِيَار نائبه، وقد نجحوا في بَعْضِ ما فكروا فيه ومرورا عبر القانونين التنظيميين معا ما يكفل ويضمن إرساء القاعدة الاجتهادية "محكمتي" عبر عدة نصوص قانونية!! من يقول هذه محكمتي، يضع برنامج عملها بالطريقة الارتجالية التي يشاؤها، فيصطفي المريدين من القضاة الذين يدينون له بالولاء، وَالفَاعِلينَ المَعْنَوِييِنَ، ويشيع في الوسط العامل به أخبارا زائفة عن البعض الآخر، وعلى منوال ذلك يرسم سياسته العاطفية بعيدا عن المنطق والاتزان!! عندما منع الأديب نجيب محفوظ بصفته آنذاك مدير مراقبة المصنفات الفنية فيلما سِينِمَائِيا لرداءته، اتصل به صاحبه المخرج قائلا: تخبرني بالمنع، وأنت صاحبي قبل أن تصير مديرا فرد باقتضاب: معنى مدير هو أنني أدير أشغال اللجنة المكلفة بِالمُراقَبَة ولا أملك المؤسسة، فلم يَحِر المخرج جوابا!! مثل هذا الإحساس الملائكي لا أثر له عند مسؤولينا، هم يستأنِسُونَ بِقَوْلِ الشاعر المُتَكَسِّبِ: "ما شئت أنت لا ما شاءت الأقدار". أو هم أطفال مدارس يمرحون ويعبثون مرددين: مَحْكَمَتِي الحِلْوَة مَحْكَمَتِي الحِلْوَة هِيَ جَنَّتِي فِيهَا تْرَبِينَا قُولُوا مَعَنَا يَا لّلِي تْحِبونَا تَحْيَا مَحْكَمْتِي أُمِّي الحَنُونَة!!