بعدما ظل الشأن الديني في المغرب يقتصر على ثنائية الإسلام واليهودية، تواصل المسيحية كملف صعودها السريع والقوي داخل المؤسسات الرسمية والهيئات العليا للدولة. فأياما بعد استقبال المجلس الوطني لحقوق الإنسان مجموعة من المسيحيين المغاربة المطالبين بحقوق دينية، احتضنت أكاديمية المملكة، يوم أمس، يوما دراسيا خاصا. اللقاء، الذي نظمته الأكاديمية بشراكة مع المجلس البابوي لحوار الأديان التابع للفاتيكان، خصص لحوار مباشر بين شخصيات فكرية مغربية وأساقفة وكاردينالات وممثلين للديانة المسيحية. منظمو اللقاء اختاروا له موضوع: «مؤمنون ومواطنون في عالم يتغير»، وحرصوا على تأطيره باستشهادات متكررة من الرسالة الملكية الموجهة إلى مؤتمر مراكش حول حقوق الأقليات الدينية، الذي انعقد في يناير من العام الماضي. استشهادات كانت تتردد في الوقت نفسه بالإمارات العربية المتحدة، حيث ينعقد ملتقى «بناء الثقة والتعاون بين الأديان»، والذي يخصص لتفعيل إعلان مراكش عبر قافلة أمريكية للسلام. لقاء أمس جاء أيضا أسبوعا واحدا بعد زيارة بابا الفاتيكان لمصر، وإلقائه كلمة في الأزهر. أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، عبد الجليل الحجمري، افتتح لقاء أمس بالقول إن المغرب أرض للتسامح وحماية غير المسلمين، «كما قال جلالة الملك في رسالة إلى المشاركين في مؤتمر حول حقوق الأقليات الدينية في الديار الإسلامية بمراكش». وقدّم الحجمري الفقرة التي قال فيها الملك محمد السادس: «إننا بوصفنا أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، نضع على عاتقنا حماية حقوق المسلمين وغير المسلمين على السواء، نحمي حقوقهم كمتدينين بمقتضى المبادئ المرجعية الثابتة التي أشرنا إليها، ونحميهم كمواطنين بمقتضى الدستور، ولا نجد في ذلك فرقا حسب المقاصد والغايات». من جانبه، حرص رئيس المجلس البابوي لحوار الأديان، الكاردينال جون لويس توران، على الاستشهاد بمقاطع من الرسالة الملكية حول الأقليات الدينية، معتبرا أنه يتفق مع كثير من مضامين الإعلان الصادر عن ذلك المؤتمر، ومشددا على أن الناس هم مؤمنون ومواطنون في الوقت نفسه، وأن تهميش المخالفين في الدين أو حصر ممارستهم لتدينهم في المجال الخاص فقط، أمر مقلق. اللقاء، الذي استمر طيلة يوم أمس، شهد حضور كوكبة من رجالات الدولة، مثل المستشار الملكي عمر عزيمان، ورئيس المحكمة الدستورية، والأمين العام السابق للحكومة إدريس الضحاك، إلى جانب السفير الفرنسي بالرباط… وقدّم في المحور الأول من النقاش، الأمين العام لرابطة علماء المغرب، أحمد عبادي، محاضرة حول المعتقدات بين النص والسياق في عالم متغير. عبادي اعتبر أنه «إذا كانت هناك مفاتيح وعلوم لمعرفة النص، فإن هناك نصوص تسمح بمعرفة السياق أيضا، علوم تم تجاهلها في تكوين علمائنا الدينيين مع مرور الوقت، وبقينا منغلقين في هذا البعد النصي، وحال بيننا وبين هذه الجسور التي تربط بني البشرية». رأي قال الأستاذ الجامعي عبد السلام بلاجي إنه يتقاطع مع حديث الكاردينال جون لويس توران عن اتفاقه مع دعوة الرسالة الملكية إلى مؤتمر مراكش، علماء المسلمين إلى الاستثمار في ميثاق المدينةالمنورة. وبينما حذر عبادي من الحضور القوي لداعش في العالم الافتراضي، موضحا أنها تبث ما لا يقل عن تسعين ألف رسالة كل يوم عبر الأنترنت، قال وزير الثقافة السابق، بنسالم حميش، إن داعش حالة خاصة نتجت بشكل مباشر عن السياسة الأمريكية وغزو العراق. «داعش تم خلقها بشكل كامل من طرف البوشية ابتداء من غزو العراق. إنه إرهاب الدولة الذي أفضى إلى إحداث داعش. هناك علاقة سببية مباشرة بين الداعشية والبوشية». المبادرة الأولى من نوعها لأكاديمية المملكة تحرس توجها رسميا يهدف إلى الانفتاح على المكون المسيحي في المجتمع المغربي، والذي ظل يعتبر طابو وموضوعا مرتبطا بحملات التبشير والتنصير التي تستهدف بعض الفئات الفقيرة والهشة. فبعد مؤتمر الأقليات، الذي احتضنته مراكش مستهل العام الماضي، حرص الملك محمد السادس على تضمين استجوابه الصحافي الأول منذ سنوات، والذي خص به الصحافة الملغاشية شهر نونبر الماضي أثناء زيارته جزيرة مدغشقر، عبارة يقول فيها إن «ملك المغرب هو أمير المؤمنين، المؤمنين بجميع الديانات»، فيما فاجأ المجلس الوطني لحقوق الإنسان المتتبعين، قبل بضعة أسابيع، باستقباله رسميا مجموعة من المسيحيين المغاربة، في خطوة أولى نحو الاستجابة لمطالب دينية غير مسبوقة في المغرب، تتمثل في تمكين مواطنين اعتنقوا الدين المسيحي من ممارسة شعائرهم الدينية. مباشرة بعد الاجتماع الرسمي الذي خصّهم به المجلس الوطني لحقوق الإنسان، قام أعضاء «التنسيقية الوطنية للمغاربة المسيحيين» بتوجيه رسالة عبر البريد المضمون إلى رئيس الحكومة الجديد، سعد الدين العثماني. الرسالة قالت إنها تتوجه إلى العثماني ووزرائه، لتعبّر لهم عن تمسّك «مسيحيي المغرب» بمغربيتهم، «ونعتبر التصريحات الملكية الأخيرة المتعلقة بالمعنى المنطقي والمعقول لمفهوم إمارة المؤمنين، والتي تعتبر أن جلالة الملك محمد السادس ملك المغرب، هو أمير لكل المؤمنين، على اختلاف مللهم ونحلهم ودياناتهم، بمثابة بوصلة لمرافعاتنا حتى تتحقق مطالبنا». واختتمت الرسالة بعبارة: «ندعو الرب أن تنجحوا في مهامكم كرئيس للحكومة المغربية التي نعول عليها لإحقاق حقوقنا كمؤمنين مسيحيين مغاربة». تطوّر آخر وقع في الفترة الأخيرة، يتمثل في إقدام المجلس العلمي الأعلى على مراجعة فتوى سابقة كان قد أصدرها قبل سنوات حول حرية المعتقد، قال فيها بقاعدة قتل المسلم الذي يغير دينه. وثيقة جديدة للمجلس العلمي الأعلى اسمها "سبيل العلماء"، تم توزيعها على العلماء بمناسبة انعقاد دورته الأخيرة بمدينة الرباط قبل بضعة أسابيع، أعطى فيها مفهوما سياسيا للردة من خلال ربطها ب"الخيانة العظمى". وجاء في الوثيقة أن الفهم الأصح لمفهوم الردة «المنسجمُ مع روح التشريع، ونصوصه، ومع السيرة العملية للنبي صلى الله عليه وسلم، أن المقصود بقتل المرتد هو الخائن للجماعة، المفشي لأسرارها، والمستقوي عليها بخصومها، أي ما يعادل الخيانة العظمى في القوانين الدولية». وفي غياب معطيات رسمية حول حجم الوجود المسيحي في المغرب، ومع وجود الحركة المدنية المدافعة عن حقوق المسيحيين في المغرب في مرحلة جنينية، يعتبر تقرير الخارجية الأمريكية حول الحالة الدينية في العالم المرجع الأهم من حيث المعطيات، والمنصة التي تنطلق منها أقوى الانتقادات الموجهة إلى تعامل السلطات المغربية مع المكون المسيحي. النسخة الأخيرة من التقرير الأمريكي، التي صدرت في غشت الماضي، ركزت على انتقاد محاربة السلطات المغربية لكلّ مظاهر التبشير المسيحي، في مقابل العناية والرعاية الرسميتين اللتين يتمتع بهما اليهود. الخارجية الأمريكية قالت إن 99 في المائة من سكان المغرب هم مسلمون سنّيون، فيما تضمّ نسبة الواحد في المائة المتبقية معتنقي ديانات ومذاهب أخرى، وأبرزهم المسيحيون واليهود والشيعة والبهائيون. التقرير توقّف مطولا عند حالات وقوانين وإجراءات منع التبشير الذي يهدف إلى استغلال الفقر والعوز لحمل عدد من المغاربة على التحوّل من الإسلام إلى المسيحية. واستند التقرير الأمريكي إلى من وصفهم بالقادة المسيحيين المغاربة والأجانب، ليقدّر عدد المسيحيين المغاربة بما بين 2000 و6000 مسيحي موزعين على جميع أنحاء البلاد. وأوضح التقرير أن ما بين 1000 و3000 مسيحي مغربي يتردّدون بانتظام على «كنائس منزلية». فيما قدّر التقرير مجموع عدد المسيحيين الأجانب المقيمين في المغرب بحوالي 40 ألف شخص، 75% منهم مسيحيون كاثوليك، فيما ينتمي الربع المتبقي إلى المسيحية البروتستانتية. وأسهب التقرير في ذكر الحالات التي شهدها العام الماضي لاعتقال أشخاص مشتبه في ممارستهم التبشير المسيحي، وذهب إلى أن المغاربة، وخاصة منهم اليافعين والشباب، الذين ينتقلون من الإسلام إلى المسيحية، يواجهون تضييقا شاملا من طرف السلطات والمحيط الاجتماعي، يجعلهم يعودون إلى الإسلام في أغلب الحالات.