نبرة الخطاب الملكي الأخير المنتقدة لعمل حكومة بنكيران في مجال التعليم، وكذا الثناء على حكومة عباس الفاسي، وهي رسالة واضحة إلى أن هناك سوء فهم بين المؤسسة الحكومية والمؤسسة الملكية، قال محمد الطوزي، وهو واحد من أساتذة العلوم السياسية الأكثر اطلاعا ومعرفة بالحقل السياسي المغربي، والعضو السابق في اللجنة الملكية الاستشارية لوضع الدستور، لوكالة الأنباء الفرنسية قبل ثلاثة أيام: «الظروف الإقليمية الحالية لا تلعب لصالح حزب العدالة والتنمية المغربي، لأنها تجبره بشكل غير مباشر على تجنب اعتماد خطاب الشرعية المبني على أساس نتائج الانتخابات كما حصل في مصر». هذه الجملة هي واحدة من المفاتيح المهمة لفهم «البلوكاج» الحاصل الآن في الحكومة، وفي علاقة بنكيران بشركائه الكبار في إدارة الدولة، وهذا «الانحباس» يظهر اليوم في عدة مؤشرات ووقائع وخطابات أهمها : 1 - تأخر رئيس الحكومة في ترميم أغلبيته، فرغم مرور حوالي شهرين على تقديم وزراء الاستقلال لاستقالتهم الجماعية (9 يوليوز)، فإن المفاوضات مع حزب الأحرار متعثرة، وهذا لا تفسير له غير الأجواء الباردة التي تسود علاقة بنكيران بشركائه. فالجميع يعرف أن حزب الزرق كله حمائم أليفة تتبع اتجاه الريح، وليس بينهم صقر يطير ضد التيار. فلو جاءت التعليمات لمزوار بالإسراع في قبول تشكيل الحكومة الثانية لما تأخر ساعة واحدة، لهذا قال بنكيران أمام شبيبة حزبه: «إذا لم تتيسر أمور الحكومة سألجأ إلى جلالة الملك الذي له واسع النظر». 2 - نبرة الخطاب الملكي الأخير المنتقدة لعمل حكومة بنكيران في مجال التعليم، وكذا الثناء على حكومة عباس الفاسي، وهي رسالة واضحة إلى أن هناك سوء فهم بين المؤسسة الحكومية والمؤسسة الملكية، وهذا شيء يقع ويحصل حتى في الملكيات البرلمانية، حيث الملوك يسودون ولا يحكمون (حوادث كثيرة كتبها مؤرخو قصر باكنغهام في بريطانيا عن خلافات الملكة إليزابيث الثانية مع مارغريت تاتشر وطوني بلير وغيرهما)، لكن وجب أن يظل الخلاف بين المؤسستين في إطار ضيق، ويجب أن يحاصر، لا أن يوسع ويتدفق على صفحات الجرائد والمواقع بلون الوقيعة والدسائس التي تتحرك من أجل إفساد العلاقات، ونشر جو من الشك في النوايا، ما يعقد مسار التحول نحو الديمقراطية كهدف استراتيجي. 3 - توقف كل أوراش الإصلاح الكبرى، من إصلاح صندوق المقاصة، إلى أنظمة التقاعد، إلى محاربة الفساد، إلى التشغيل... وتوقف هذه المشاريع، الذي تتحمل مسؤوليته الحكومة بالدرجة الأولى، يأتي في ظل ظرفية اقتصادية واجتماعية صعبة جداً، فعجز الميزانية يتسع، ومعدل البطالة يزداد، وخاصة في صفوف حاملي الشهادات العليا، وأسعار الحليب ترتفع، والمقاولات تعاني جراء الركود الاقتصادي... كل هذا يهدد بانفجار اجتماعي لا أحد يتوقع كيف ومتى يقع. الآن لنرجع إلى تحليل الطوزي لأنه مفتاح لفهم الوضع الحالي، ومفتاح للحل في الوقت نفسه. على بنكيران أن يعيد حساباته وبدقة كبيرة على ضوء ما يقع الآن في مصر وتونس، وقبول جزء من الإدارات الغربية، وفي مقدمتها أمريكا، بعودة السلطوية العربية إلى الحكم في ثوب جديد بعيدا عن نتائج صناديق الاقتراع، التي حملت الإسلاميين إلى السلطة على ظهر الربيع العربي. هل نتائج صناديق الاقتراع كافية لوحدها في الظرف الراهن بالمغرب، وفي ظل تركيبة الحكم في بلادنا، وفي ظل خوف النخب من الإسلاميين، مبررا كان أو غير مبرر؟ هل نتائج صناديق الاقتراع تسمح الآن لوحدها أساسا بالاستمرار في السلطة بدون «توافقات» مع القصر والمحيطين بالقرار الملكي؟ توافقات أوسع وأكبر من الحاصل الآن، وفي مناخ جديد غير القديم الذي أثبت محدوديته. البلاد الآن مثل شركة كبيرة فيها مساهم مرجعي يملك أكثر من 51 من الأسهم، وهو المؤسسة الملكية، وهناك شريك ثان هو الحكومة يدير هذه الشركة لولاية خمس سنوات، يملك عددا من الأسهم لكنه يحتاج لكي يسير الشركة إلى التوافق مع صاحب الأسهم الأكبر على الخطوط الكبرى للعمل. هكذا قسم الدستور السلطة في البلاد، وكان المؤمل أن تسير هذه الشركة الكبيرة بطريقة التفويض الكامل من قبل القصر للحكومة، لكن لأسباب كثيرة، سياسية وتدبيرية وتاريخية وإقليمية، أصبحنا أمام الإدارة المزدوجة للقرار السياسي في البلاد بين القصر ورئاسة الحكومة، وهذا أمر معقد، ويتطلب قنوات مفتوحة 24 ساعة على 24 ساعة بين الحكومة والجالس على العرش، وحوارا صريحا حول طاولة توضع عليها كل الهواجس والمخاوف، واستعدادات كبيرة للتنازل من أجل مصلحة البلاد، مادام الطرفان لا يملكان بدائل أخرى عن التعايش داخل الوثيقة الدستورية وخارجها. يمكن لبنكيران أن يخرج رابحا من تجربة الحكومة وفي جيبه ورقة تطبيع كامل بين الإسلاميين المعتدلين والقصر وشركاء المغرب الكبار، وتجربة في التسيير تساعد حزبه، الذي دخل الحكومة بلا خبرة، على خوض تجارب أخرى أفضل غدا أو بعد غد، ويمكن للقصر أن يخرج رابحا من إشراك الإسلاميين في العملية السياسية عن طريق ربح الاستقرار، وربح نقطة جيدة في قدرة السلطة على التطبيع مع صندوق الاقتراع، دون الحاجة إلى تزوير نتائجه للقضاء على طرف له جذور في البيئة الاجتماعية والسياسية المغربية، هذا مع العلم بأن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة جداً، والتي ستصبح أصعب غدا، تحتم على القصر أن يبتعد عن الاحتكاك المباشر بالقرار، وأن يعتمد على وسطاء يقدرون على مواجهة حرارة الشارع، وعلى تحمل نتائج فشل السياسات العمومية، لهذا يجب على بنكيران أن ينسى نتائج اقتراع نونبر 2011، الآن على الأقل.