قبل حوالي ثلاث سنوات، عندما كان رؤساء أحزاب ورجال مال وأعمال ومسؤولون في السلطة ودبلوماسيون وصحافيون.. يتصلون بإلياس العماري ليتوسط لهم ويحل مشاكلهم مع الإدارة والمحاكم، وكان هو يقدم نفسه كممثل للقصر الملكي ويدخل وزارة الداخلية ب"الشورت" كما قيل وكُتب.. في هذه الأثناء أخبرني صحافي مقرب منه، أن إلياس باحَ له في لحظة صفاء: "كلما رأيت نفسي أصعد بسرعة، أيقنت أن هاويتي باتت قريبة". هل انتهى إلياس العماري بظهور أخنوش كلاعب أساسي في مرحلة ما بعد 7 أكتوبر، التي كان عنوانها الأبرز والمفارق هو الفشل الذريع لحزب الأصالة والمعاصرة، بالرغم من نجاحه في احتلال المركز الثاني وحصوله على عدد مقاعد يساوي ثلاث مرات تلك التي حصل عليها حزب "البديل" أخنوش؟ ففيمَ، إذن، وأين فشل "الثعلب الذي يخيف الدجاج"، بتعبيره هو؟ ألم يكن إلياس مجرد عون تنفيذ "agent d'exécution" لسياسة كسرِ شوكة العدالة والتنمية، وهي سياسة اجتمع لتنفيذها ثعالب من نساء ورجال السلطة والأعمال والإعلام، وفشلوا جميعهم في إخافة الناخبين من أخونة الدولة، في مسيرة الدارالبيضاء الكوميدية، ودفعهم لوضع بيضهم في سلة "البام". فلماذا نعلن فشل إلياس العماري دون محمد حصاد ومريم بنصالح وعزيز أخنوش نفسه، الذي لم يألُ جهدا لدعم مرشّحي "التجمع" و"البام" في منطقته، ليس حبا فيهما، وهذا حقه، بل نكاية في "البيجيدي" الذي قال في تسجيل صوتي مسرب، إنه لن يغفر له كيف حاربه في واقعة توقيع صندوق العالم القروي؟ الفرق بين هؤلاء وإلياس العماري، يكمن في أنهم واجهوا العدالة والتنمية مواجهة تقليدية، بالمال والإدارة، وهي مواجهة نجحت إلى حد كبير في كبح اكتساح إخوان بنكيران، بالاعتماد على التقطيع والنظام الانتخابي، والتحكم في الأعيان وجمعيات التنمية البشرية، وحتى من خلال التدخل المباشر والمفضوح لرجال ونساء وأعوان السلطة من أجل دعم هذا المرشح أو التشويش على ذاك… بينما إلياس ورفاقه باعوا السلطة مشروعا إيديولوجيا قوامه أن حزب العدالة والتنمية لا يمكن مواجهته فقط، بقصِّ أجنحته انتخابيا، لأنه حزب إيديولوجي حي ومؤثر في المجال الدعوي والتربوي والإحساني والإعلامي.. وبالتالي فمواجهته الحقيقية يجب أن تكون إيديولوجية، وألا أحد يقوى على فعلها غير مناضلي ومثقفي اليسار الذين اعتادوا مناطحة ومساجلة الإسلاميين في الحلقيات والندوات والكتابات والتظاهرات. على هذا الأساس تم التعاقد مع فلول اليسار البامي، بقيادة إلياس العماري، على قاعدة: "حداثة بدون ديمقراطية ومؤسسات حقيقية". ضمن هذا السياق ضُخت الأموال في المشاريع الإعلامية العديدة والمتنوعة التي أطلقها إلياس. وفي الجمعيات "الحداثية" التي دفع إلياس يساريين، لم يحتفظوا من يساريتهم سوى بثأر قديم من الإسلاميين، لتأسيسها والترديد في الفراغ أن التناقض الرئيسي والتناحري هو مع "الخوانجية". هذا فضلا عن مثقفين محبطين مثل القاضي الهيني، الذي دُفع لتأسيس جبهة ميتة لمناهضة التطرف والإرهاب، وأُرسل إلى باريس حاملا لافتة بئيسة كُتب عليها أن عبدالعلي حامي الدين قتل القاعدي آيت الجيد، رمز الطلبة القاعديين الذي يُراد قتله مرتين بقرن اسمه بإمعات والزج بمؤسسته في مثل مسيرة الدارالبيضاء، التي ظهر فيها مراهقون يحملون نفس لافتة الهيني، وعندما سُئلوا عن آيت الجيد ظهر أنهم لا يعرفونه. باختفاء إلياس، وظهور أخنوش، يكون صانعو المشهد السياسي بالمغرب قد عادوا إلى المواجهة الإدارية – السياسية للعدالة والتنمية، والتخلي عن المواجهة الإيديولوجية التي أتت بنتائج عكسية ليست في النتائج الانتخابية فحسب، بل في نشأة وعي وحساسية غير إسلامية، واسعة ومطردة، لمساندة بنكيران من باب مساندة الحق، وقد قال لي القيادي اليساري مصطفى مفتاح، أحد مؤسسي 23 مارس، ومنظمة العمل، والحزب الاشتراكي الموحد: "لقد أصبحنا مضطرين للدفاع عن بنكيران". فأين إلياس العماري من كل هذه التحولات؟ لقد اعترف بفشله، وقام بنقد ذاتي غير مباشر، ظهر في ثلاث خطوات: الأولى، انتقاله من الدعوة لمواجهة البيجيدي، والإسلاميين، إلى مصالحتهم. الثانية، اعترافه بفشل مشروعه الإعلامي الإيديولوجي الذي يتكون من ستة منابر صحفية، عندما تركه وذهب ينشر مقالاته في منبر مستقل. الثالثة، إسناده إدارة تحرير "آخر ساعة" للدبلوماسي اليساري الرصين، عبدالقادر الشاوي، وهو إعلان عن الانتقال من زمن مسؤول التحرير المصري الحاقد على الإخوان، إلى المثقف اليساري الناقد للاستبداد سواء أكان في الإخوان أو في الدولة. فهل ينقذ ذلك إلياس وحزبه ويخرجه من متاهته؟