في حوار مع جريدة «الشرق الأوسط»، في نونبر الماضي، وجه سؤال إلى رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، حول دور فؤاد عالي الهمة في مشاورات تكوين الحكومة عبد الحق بلشكر ويونس مسكين
فكان رده» «هذا المستشار الملكي له مكانة خاصة، والجميع يعرف هذا، وسواء تعلق الأمر بالحكومة الأولى أو الحكومة الثانية، فإنه قام بدور كبير في التشاور، وساهم في الوصول إلى الصيغة النهائية لهذه الحكومة»، ثم استطرد بنكيران قائلا: «لكن أي شيء لم يكن يجري من دون إطلاع جلالة الملك عليه، والحصول على إذنه». هذا التأكيد يدل على أن الهمة ساعد بنكيران على إخراج حكومته إلى حيز الوجود، بعدما راج أن هناك توجه داخل الدولة يدعو إلى وضع حد لتجربة هذه الحكومة، بعد انسحاب حزب الاستقلال منها. فهل تخلى فؤاد عالي الهمة عن توجهاته المعادية للإسلاميين؟ وهل اقتنع بأنهم تيار سياسي يمكن التعامل معه، بدون خوف؟ وهل تعكس مساعدته على خروج حكومة بنكيران في نسختها الثانية تحولا في دور الرجل القوي في نظام محمد السادس؟ منذ توليه مهمة مستشار ملكي في نونبر 2011، توارى الهمة عن الأضواء، مما جعل البعض يعتقد بأن أسطورة الرجل القوي في النظام، انتهت، وما زكى هذه المعطيات، أن الهمة أصبح مجرد مستشار في الديوان الملكي، وابتعد شبه كليا عن حزب الأصالة والمعاصرة الذي أسسه سنة 2008، واكتسح به الانتخابات الجماعية لسنة 2009، وأسس به أكبر فريق برلماني من الرُّحل. في رأي المحللين، فإن أسطورة الرجل القوي، انتهت، بعد تعيين الهمة مستشارا في الديوان الملكي، وابتعاده عن الإشراف على الأجهزة الأمنية. وحسب مصطفى السحيمي، الأستاذ الجامعي، فإنه منذ خروج الهمة من وزارة الداخلية وانتقاله إلى موقع مستشار، «لم تعد له سلطات تنفيذية مباشرة وعملية.» وقال «رغم أننا يمكن أن نتوقع وجود اتصالات بينه وبين المسؤولين الأمنيين بصفته مستشارا، إلا أنه لم يعد يسيطر عمليا على الجهاز الأمني». أما حميد برادة، الصحافي، في جون أفريك، ومقدم برنامج mais encore، في قناة دوزيم، فيرى، أن السلطات اقتنعت بأن الإسلاميين في المغرب مختلفون عن نظرائهم في دول أخرى مثل ليبيا ومصر، وأنه يمكن التعامل معهم، ولهذا يرى أنه حدث تغيير في التوجهات المعادية لحزب العدالة والتنمية، والتي خرج من أجلها فؤاد عالي الهمة من وزارة الداخلية إلى العمل الحزبي. هناك عدة وقائع يستدل بها البعض للتأكيد بأن الهمة لم يعد بالقوة التي كان عليها، منها، عدم تدخله لمنع متابعة صهره عبدالإله المنصوري، أمام القضاء، في قضية تهجم الصيادلة على وزير الصحة الحسين الوردي، وثانيها، توجهه للقضاء عندما شعر بأن تصريحات عبدالله القادري، زعيم الحزب الديموقراطي الوطني، قد مسته، وفضلا عن هذا، فإن الرجل أصبح مقيّدا بواجب التحفظ الذي يفرضه عليه منصبه كمستشار للملك. لكن، في المقابل، فإن مسؤولي حزب العدالة والتنمية، لا يخفون بأن الهمة لازال خصما لهم، ويتهمونه بالوقوف وراء تحركات شباط ضد الحكومة، وخلق بعض التوترات التي تؤثر على عمل الحكومة. فما حقيقة نهاية أسطورة الرجل القوي؟
هل انتهت أسطورة فؤاد عالي الهمة، الرجل القوي في نظام محمد السادس؟ البعض يرى أن الهمة، الذي شغل الرأي العام منذ قراره الاستقالة من وزارة الداخلية سنة 2007، وترشحه للانتخابات في مسقط رأسه في الرحامنة، وتأسيسه حزب الأصالة والمعاصرة، أصبح اليوم رجلا عاديا في النظام، فيما يرى آخرون أن الهمة يوجد حاليا في وضعية استراحة محارب (ضد الإسلاميين). خمس وقائع ظهر خلالها الهمة كرجل عادي في النظام، بعيد عن التأثير في مجريات الأحداث السياسية. الأولى، هي اختفاؤه عن الأنظار مدة طويلة، فالرجل لم يعد يدلي بالتصريحات للصحافة، ولا يهاجم خصومه علانية كما كان في السابق. الصورة الوحيدة التي ظهر فيها طيلة هذه المدة التي عين فيها مستشارا في الديوان الملكي، كانت إلى جانب الملك سواء في اللقاءات الرسمية، والزيارات خارج التراب الوطني، أو جالسا إلى جانب الملك في سيارته. الواقعة الثانية، هي أن الهمة ابتعد عن الحزب الذي أسسه (الأصالة والمعاصرة)، بشكل شبه نهائي، ما جعل الحزب الذي وصف بأنه «حزب الدولة»، يعرف مخاضا جديدا، محاولا شق طريقه بعيدا عن الهمة حسب البعض. الواقعة الثالثة، هي حادثة اعتقال صهره عبد الإله المنصوري وملاحقته أمام القضاء بتهمة إهانة وزير الصحة، الحسين الوردي، حيث إن هذه المصاهرة لم تنفع المنصوري في وقف متابعته أمام القضاء. أما الواقعة الرابعة فهي أن الهمة لجأ إلى القضاء بشكل عادي عندما شعر بأنه تم المساس به من طرف عبد الله القادري، زعيم الحزب الديمقراطي الوطني، ولم يستعمل وسائل أخرى كانت معروفة لإسكات القادري. أما الواقعة الخامسة والأهم، فهي أن الهمة ساعد بنكيران على خروج الحكومة الثانية باعتراف بنكيران نفسه، حيث لعب دورا في مشاورات تشكيل النسخة الثانية من الحكومة. بالنسبة إلى مصطفى السحيمي، الأكاديمي والصحافي، فإن الهمة «لم يعد الرجل القوي»، فبعد أن كان قويا عندما كان يسيطر على الأجهزة الأمنية، قد تغير الوضع اليوم، ولم تعد له تلك السيطرة السابقة. السحيمي اعتبر أن الرجال، الذين وصفوا بالأقوياء في المملكة، هم الجنرال محمد أوفقير، والدليمي، وإدريس البصري، وزير الداخلية السابق، ورضى كديرة، إضافة إلى فؤاد عالي الهمة، لكن اليوم، حسب السحيمي، فإن الهمة لم تعد له السيطرة على الأجهزة، وإن كان الشرقي الضريس، الوزير المنتدب في الداخلية يستشيره. أما فؤاد عبد المومني، الاقتصادي والفاعل الجمعوي، فيرى أن «الرجل القوي في النظام مجرد أسطورة خلقتها الطبقة السياسية حتى لا تتواجه مباشرة مع الملك»، إذ إن «النخب هي التي تصنع الرجل القوي في النظام»، و«الهمة ليس قويا لأنه غير مستقل عن الملك».
الاستقالة من الحزب
في 14 ماي 2011، بعد حوالي شهرين على الخطاب الملكي في 9 مارس 2011، الذي أعلن تعديل الدستور، كتب فؤاد عالي الهمة استقالته من حزب الأصالة والمعاصرة، ما أحدث ضجة داخل الحزب، وارتياحا وسط الطبقة السياسية. الرجل الذي خرج من المربع الملكي سنة 2007، وترشح للانتخابات في مسقط رأسه في الرحامنة، وحصد المقاعد الثلاثة فيها، ثم ظهر في قناة دوزيم ليعلن الحرب على حزب العدالة والتنمية، وأسس حزبا حصد الرتبة الأولى في الانتخابات الجماعية سنة 2009، قرر فجأة ترك المعترك السياسي الحزبي، والعودة إلى المربع الملكي. الهمة برر في رسالته مغادرته للحزب بأسباب تتعلق بسير الحزب، لكن الواقع أن هذا الانسحاب جاء في سياق الحراك العربي والمغربي، وبعد اللافتات التي رفعت في المظاهرات التي خرجت في 20 فبراير تنتقد عددا من الوجوه السياسية، منها الهمة وحزبه الذي وصف بأنه حزب الدولة. وفي 7 دجنبر 2011، أي بعد أربعة أشهر ونصف من ابتعاده رسميا عن الحزب الذي أسسه سنة 2008 لمواجهة الإسلاميين، جاء بيان لوزارة القصور الملكية والتشريفات والأوسمة ليعلن أن الملك محمد السادس عين فؤاد عالي الهمة مستشارا له بالديوان الملكي. البعض اعتبر ما حدث بمثابة طي لصفحة الرجل القوي في النظام، وإعلان فشل مشروع حزب الأصالة والمعاصرة، القائم على مواجهة إسلاميي العدالة والتنمية، وفتح صفحة أخرى عاد فيها الهمة إلى مكانه الطبيعي داخل المربع الملكي، فيما اعتبر آخرون أن ما حدث مجرد انحناء للعاصفة، وأن الهمة لن يتخلى بسهولة عن نظرته السلبية إلى الإسلاميين، بل سيعمل على مواجهتهم من موقعه الجديد، كمستشار للملك، وأيضا من خلال حزبه الذي لايزال يعتبر مؤسسه وحامل مشروعه، مشروع يتلخص في حماية السلطة الكبيرة للملك في القرار السياسي مع محاولة التكيف مع ضرورات التحديث الشكلي لنظام الحكم كانت انتخابات 25 نونبر 2011 أكبر دليل على فشل مشروع الهمة، الهادف إلى الحد من شعبية الإسلاميين. فقد تمكن حزب العدالة والتنمية من الفوز ب107 مقاعد في البرلمان، وهو رقم قياسي لم يسبق أن حققه الحزب الإسلامي، أي أن الحرب التي خاضها الهمة وحزبه ضد الإسلاميين كانت نتائجها عكسية، وأدت إلى زيادة شعبيتهم، كما أن هذه الانتخابات جاءت في سياق عربي مضطرب، سقطت خلاله أنظمة عربية، ووقعت تغييرات كبيرة في السلطة. يقول حميد برادة، الصحافي بمجلة جون أفريك: «التحليل العام لظاهرة الإسلاميين في المغرب، أظهر أنه لا ضرر في التعامل معهم في هذه المرحلة»، وأنهم «ليسوا خطيرين على النظام مثل نظرائهم في ليبيا ومصر». وحسب برادة، فإن بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، ساهم في تغير الموقف من الإسلاميين، من خلال تأكيده الدائم على رفع شعار: «الله، الوطن، الملك»، حسب برادة الذي يضيف: «كان هناك شك في نوايا بنكيران، لكن تبين فيما بعد أن إسلاميي المغرب مختلفون، ويمكن التعامل معهم». وفي حوار لرئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، مع جريدة «الشرق الأوسط» في نونبر 2013، وجه إليه السؤال التالي: ما هي حقيقة مساهمة المستشار الملكي فؤاد عالي الهمة في تذليل العقبات التي اعترضت تشكيل الحكومة؟ فكان جواب بنكيران: «هذا المستشار الملكي له مكانة خاصة، والجميع يعرف هذا، وسواء تعلق الأمر بالحكومة الأولى أو الحكومة الثانية، فإنه قام بدور كبير في التشاور، وساهم في الوصول إلى الصيغة النهائية لهذه الحكومة»، ثم استطرد بنكيران قائلا: «لكن أي شيء لم يكن يجري من دون اطلاع جلالة الملك عليه، والحصول على إذنه».
الهمة وحكومة بنكيران
خلال فترة المشاورات لتشكيل الحكومة الأولى، كشف بنكيران أن الملك محمد السادس سأله مرة: «هل مازلت على خصام مع فؤاد عالي الهمة؟»، وقبلها كان بنكيران قال، في ندوة صحافية بعد ظهور نتائج انتخابات 2011، إنه لن يقبل بالوسطاء في التعامل مع الملك، وهي رسالة كانت موجهة إلى فؤاد عالي الهمة بالدرجة الأولى، بسبب حروب الطرفين منذ خروج الهمة من وزارة الداخلية وتأسيسه لحزبه، لكن ما إن بدأت المشاورات، لتشكيل النسخة الأولى من الحكومة، حتى ظهر اسم فؤاد عالي الهمة كأحد الفاعلين الأساسيين فيها، خاصة عندما توقفت المشاورات لفترة بسبب الخلاف حول اقتراح اسم مصطفى الرميد وزيرا للعدل. وحسب مصادر في حزب العدالة والتنمية، فإن الهمة اعترض على اسم الرميد ضمن التشكيلة الحكومية التي اقترحها بنكيران، متهما إياه بأنه يقف وراء رفع لافتات ضده في مظاهرات حركة 20 فبراير، فيما قال البعض إن اعتراض الهمة على الرميد كان في الأساس اعتراضا للقصر بسبب وجود تقارير أمنية كانت تقول إن الرميد كان يشكك في أحداث 16 ماي، ولم جرى التأكد من عدم صحة هذه التقارير رفع «الفيتو» عن المحامي والحقوقي الذي أصبح وزيرا للعدل. وفي غشت 2012، خرجت فجأة إلى العلن أزمة صامتة بين رئيس الحكومة ومستشار الملك، عالي الهمة، حيث صرح بنكيران لمجلة «لافي ايكونوميك» قائلا: «لم نصل بعد إلى مستوى أكبر من التعاون مع مستشاري جلالة الملك»، وهو التصريح الذي نشرته أيضا جريدة «الصباح»، وأثار زوبعة بين بنكيران والقصر، اضطر معها رئيس الحكومة، في سابقة، إلى نشر بيان اعتذار إلى الملك ومستشاريه. بنكيران قال إنه تم تحوير كلامه، مضيفا: «إنني لا أملك إلا أن أعتذر إلى جلالة الملك عن أي إساءة غير مقصودة أكون قد تسببت فيها٬ ومن خلاله إلى مستشاريه المحترمين٬ وأجدد بهذه المناسبة عبارات الولاء والتقدير التي أكنها لجلالة الملك حفظه الله وأعز أمره». بعض مسؤولي العدالة والتنمية، وإن كان حزبهم في موقع المسؤولية الحكومية لا يخفون تضايقهم من تحركات فؤاد عالي الهمة، الرجل القوي في المربع الملكي. وحسب مصدر من الحزب، فإن عبارة التماسيح والعفاريت، التي وظفها بنكيران في خطابه السياسي، كان بعض المحسوبين على فؤاد عالي الهمة هم المقصودين بها. ويعتقد عدد من قيادات البيجيدي أن هؤلاء هم الذين كانوا يقفون وراء حالة الارتباك التي عاشتها النسخة الأولى من الحكومة، خاصة الطريقة التي وصل بها حميد شباط إلى قيادة حزب الاستقلال، ودفعه حزبه إلى الخروج من الحكومة، كما يعتقد بعض إسلاميي البيجيدي أن صعود إدريس لشكر إلى قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي يدخل في سياق خطة لتشكيل جبهة ضد بنكيران. لكن بعض التحليلات الأخرى تستبعد أن يكون للهمة أي دور في التغييرات التي عرفها كل من حزبي الاتحاد والاستقلال، مرجحة أن البيجيدي يبحث عن شماعة ليعلق عليها تعثر عمل الحكومة، خاصة أن قرار حميد شباط الخروج من الحكومة مرتبط بسياق سياسي وحزبي. وقد شهدت الحكومة خلافات وسط أغلبيتها ابتدأت منذ انتخاب شباط أمينا عاما لحزب الاستقلال خلفا لعباس الفاسي، في شتنبر 2012، حيث بدأت المشاكل بين بنكيران وشباط، بعدما أصر هذا الأخير على إجراء تعديل حكومي يعطي تمثيلية وازنة لحزبه. يقول وزير في الحكومة الحالية إن «شباط لم يكن جديا، لأنه لم يطالب بتغيير وزراء حزب الاستقلال، إنما طالب بتعديل شامل يمس حصص الأحزاب الأخرى في الحكومة، ولهذا اعتبر بنكيران هذا الموقف بمثابة ابتزاز»، ولم يتم حل المشكل داخل الأغلبية إلا بعدما انسحب الحزب رسميا من الحكومة، وتقديم وزراء حزب الاستقلال استقالتهم رسميا من الحكومة، بعد ما يقارب سنة من الأخذ والرد. وتطلب الأمر ما يناهز ثلاثة أشهر من المفاوضات لتشكيل النسخة الثانية من الحكومة. وهي مفاوضات لعب فيها فؤاد عالي الهمة دورا، بشهادة بنكيران.
البام بعد الهمة
فاجأت استقالة فؤاد عالي الهمة حزب الأصالة والمعاصرة، وبدأ الأعيان والمنتخبون الذين التحقوا بالحزب يتلمسون مواقعهم، ويشككون في مستقبل الحزب الذي فقد مؤسسه. كان الهمة قد اختفى عن الأنظار منذ بداية حركة 20 فبراير، ولم يعد يحضر اجتماعات قيادة البام، لكن لا أحد كان يتوقع أن يتخلى الهمة عن المشروع الذي خرج من أجله من وزارة الداخلية لمواجهة الإسلاميين. استقالة الهمة كانت حدثا كبيرا ابتهجت به قيادات العدالة والتنمية، وعبر قادة حزب الاستقلال، الذي نال نصيبه من حروب الهمة، عن ارتياحهم له. ولكن أصواتا ارتفعت مطالبة الهمة بحل حزب الأصالة والمعاصرة، وعدم الاكتفاء فقط بالاستقالة. فقد علق عبد الإله بنكيران حينها على هذا الحدث قائلا، في تجمع في أكادير عقد في 15 ماي 2011، قائلا: «تأسفت على استقالة فؤاد عالي الهمة من البام، لأنه ضيع أكثر من 10 سنوات من حياته في محاربة العدالة والتنمية والتيار الإسلامي»، وأضاف أن الهمة «رجل لطيف لكنه أخطأ، ويجب أن يكفر عن أخطائه بحل الحزب المشؤوم». وبعد غياب الهمة، بدأت تثار تساؤلات حول مستقبل الحزب، خاصة بعد الصراعات التي ظهرت داخله، بين الأعيان من جهة، والنخب اليسارية من جهة ثانية، وظهر هذا خلال المؤتمرات الجهوية التي عرفت صراعات وتقاطبات كبيرة، وكاد الحزب أن ينشطر لولا انعقاد مؤتمره الذي أعاد إليه بعض العافية بانتخاب مصطفى الباكوري أمينا عاما للحزب، وهو شخصية بعيدة عن الصراعات الحزبية، ثم بدأ الحزب تدريجيا يركز على بناء صفوفه التنظيمية، ويسعى إلى تغيير الصورة التي ارتبطت به كحزب خرج من رحم الدولة، ليظهر كحزب سياسي عادي يخوض المعارك السياسية، ويقدم مقترحات القوانين، ويثير النقاشات داخل البرلمان حول قضايا مثل «تقنين زراعة الكيف»، كما ظهر الحزب أقل عدائية تجاه حكومة بنكيران مقارنة بمواقف كل من حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي. ويذكر هنا كيف تراجع حزب البام عن التوقيع على عريضة الطعن في القانون المالي لسنة 2014 أمام المجلس الدستوري، رغم أن الحزب ساهم في إعداد هذه العريضة. هذه الصورة الجديدة التي ظهر بها البام جعلت قائدي حزبي الاتحاد والاستقلال يعتبران أن البام أصبح حزبا عاديا، يمكن التنسيق معه في بعض البرامج. وداخل حزب البام نفسه بدأت القيادة الجديدة تتأقلم مع وضعها الجديد في غياب الهمة، وعندما سئل عن ذلك إلياس العمري، الرجل القوي داخل البام وصديق فؤاد عالي الهمة، قال: «الهمة مسؤول الآن في إطار مؤسسة رسمية، وكان مسؤولا قبل ذلك في حزبنا» (حوار مع «المساء» في أكتوبر 2013).
الهمة وقضية العفو عن كالفان
رغم تواريه عن الأنظار فإن حدثا غير متوقع أخرج الهمة إلى العلن، عندما ذكر اسمه مرتبطا بقضية حساسة تتعلق بالعفو عن دانيال كالفان، مغتصب الأطفال في مدينة القنيطرة. في هذا الحادث ظهر الهمة كرجل مؤثر وقريب من الملك، وقادر على اتخاذ قرارات أساسية، لكن أيضا كرجل منافس لبنكيران. فقد كشفت يومية «إلباييس» وموقع «لكم»، استنادا إلى مصادر في السفارة الإسبانية بالرباط، تفاصيل رواية مثيرة عن كيفية إدراج دانيال كالفان، الذي حكم عليه ب30 سنة سجنا، ضمن لائحة العفو الملكي. وقع ذلك خلال الزيارة الرسمية لملك إسبانيا إلى المغرب، يوم 18 يوليوز 2013، إذ التقى الملك الإسباني رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، وأثار معه موضوع سجين بطنجة يدعى أنطونيو غارسيا فيدرييل يبلغ 58 سنة، حالته الصحية متدهورة، حيث تباحث الملك مع رئيس الحكومة حول إمكانية تسريع إجراءات نقله إلى إسبانيا لإتمام عقوبته الحبسية قرب عائلته. حسب «إلباييس» و«لكم»، فإنه بعد يومين، اتصل فؤاد عالي الهمة، مستشار الملك، بالسفير الإسباني في الرباط، ألبرتو نافارو، وتحدث معه بلغة لا تخلو من عتاب، قائلا: «لماذا لم يطلب خوان كارلوس تسوية حالة انطونيو غارسيا مباشرة من القصر عوض بنكيران؟»، فرد عليه السفير بأن إدارة السجون توجد ضمن اختصاص رئيس الحكومة، وهنا أجابه الهمة بالقول: «إن صاحب الجلالة يمكن أن يحل أمورا مثل هذه». صحيفة «إلباييس» حينها ذهبت إلى أن هذا الاتصال أظهر أن القصر يريد منازعة بنكيران في اختصاصه. السفير انتبه إلى عرض الهمة -تضيف «إلباييس»- فاغتم الفرصة، وطلب من القنصليات الإسبانية إعداد قائمة السجناء الذين سيتم طلب العفو لهم، وقائمة أخرى للسجناء الذين سيطلب ترحيلهم لقضاء مدة عقوبتهم في إسبانيا، وتوصل السفير بقائمتين؛ الأولى تضم ثلاثين سجينا لترحيلهم، وكان ضمنها كالفان، والثانية تضم 18 شخصا مرشحين لنيل العفو على شرط ألا يكونوا من أصول مغربية، وأن يكونوا أمضوا مدة حبسية. وتعلق «إلباييس» بالقول إن شخصا في القصر الملكي مزج بين اللائحتين لتصبح لائحة من 48 شخصا صدر عفو بشأنها عن الإسبانيين جميعا، بمن فيهم مغتصب الأطفال وتاجر مخدرات ضبطت بحوزته 9 أطنان من المخدرات. وقد خلف الحادث احتجاجات قوية في الشارع ووجهت بعنف، ولم تهدأ إلا عندما تم إيداع مغتصب الأطفال كالفان سجنا إسبانيا، كما تم تحميل المسؤولية لحفيظ بنهاشم، مدير إدارة السجون، باعتباره المسؤول عن خطأ الإفراج عن كالفان. ورغم أن سفير إسبانيا في الرباط، ألبرتو نافارو، نفي وجود أي اتصالات بين إسبانيا ومستشار الملك، فؤاد عالي الهمة، في موضوع دانيال كالفان، معتبرا الأخبار الواردة عنها «عارية تماما من الصحة»، فإن آثار هذه القضية لم تُمح بشكل كامل.
الهمة وصهره المنصوري
حدث آخر أعاد اسم فؤاد عالي الهمة إلى السطح، ويتعلق بالمشادة التي وقعت بين الصيادلة ووزير الصحة، الحسين الوردي، داخل البرلمان. فرغم أن أحد الصيادلة تربطه قرابة عائلية بفؤاد عالي الهمة، فإن ذلك لم يجنبه الاعتقال، وتمضية ليلة باردة في كوميسارية بالرباط، والمتابعة أمام القضاء. الحادث قرأ فيه البعض تراجعا لقوة الهمة، الذي كان يشرف على الأجهزة الأمنية عندما كان في وزارة الداخلية، فيما قرأ فيه آخرون سلوكا جديدا وتحولا إيجابيا في التعامل مع قضية يفترض أن تُحل بالقانون وليس بتدخلات الشخصيات النافذة. تفاصيل هذه الواقعة جرت بداية شهر يناير المنصرم، عندما تمكن مجموعة من الصيادلة، منهم عبد الإله المنصوري، صهر فؤاد عالي الهمة (زوج أخته)، وابن عم فاطمة الزهراء المنصوري، عمدة مراكش، من ولوج قبة البرلمان، بمساعدة من برلمانية من حزب الأصالة والمعاصرة، بهدف حضور اجتماع للجنة برلمانية كان مقررا أن يعرض فيها وزير الصحة مشروع قانون يتعلق بحل هيئتي صيادلة الشمال والجنوب. وهنا ظهر أن قرابة عبد الإله المنصوري، عضو هيئة صيادلة الجنوب، وزوج أخت فؤاد عالي الهمة، لم تنفعه، في وقت انتبه كل من له صلة بهذا الملف إلى أن عليه الابتعاد، مخافة أي رد فعل من الهمة. وقضى المنصوري ليلة كاملة في الكوميسارية بالرباط، وتم تحرير محضر له، وتسجيل متابعة في حقه بتهمة إهانة موظف. المثير أن بقية الصيادلة تم الإفراج عنهم مباشرة بعد الاستماع إليهم، إلا صهر الهمة. «أخبار اليوم» كانت حاضرة خلال هذه الواقعة، فبعد تهجم الصيادلة على الوردي، قام هذا الأخير في الحين بالاتصال بوزير الداخلية محمد حصاد، الذي أبلغ بدوره المدير العام للأمن الوطني، وصدرت تعليمات بالاستماع إلى الصيادلة الذين احتفظ بهم أمن البرلمان في أحد المكاتب، وتم التعامل معهم بلطف، قبل أن تحضر سيارة الشرطة. المثير أن المنصوري رفض في البداية ركوب السيارة، وطلب من رجال الأمن أن يضعوا له قيدا على يديه كشرط ليصعد السيارة، أو يتركوا له المجال ليركب سيارته ويلحق بسيارة الشرطة إلى الكوميسارية. عناصر الأمن كانوا يعرفون مع من يتحدثون، فتعاملوا معه بأدب كبير، وكانوا يجرون الاتصالات برؤسائهم للتشاور حول كيفية التعامل مع هذا الملف. المنصوري، نفسه، كان يجري اتصالات، ويحرص على أن يبتعد قليلا عن تجمع الصحافيين وعناصر الأمن، حتى لا يسمعه أحد، وبعد لحظات، أغلق المنصوري هاتفه، وأخبر عناصر الأمن أنه سيركب معهم سيارة الشرطة بدون أي شرط، وأخبر الصحافيين بأنه لم يتهجم على وزير الصحة، وأن هذا الأخير هو الذي سبه بكلام نابي. مع من كان يتحدث المنصوري؟ لا أحد يعرف الجواب سوى المنصوري نفسه. شخصية الهمة كانت حاضرة في اليوم الموالي في البرلمان، عندما حل بمقر البرلمان عناصر من الشرطة القضائية للتحقيق في الحادث، والاستماع إلى الشهود الذين عاينوا ما حدث. المفاجأة هي أن عددا من الشهود اختفوا وفضلوا عدم الإدلاء بشهاداتهم، ومنهم برلمانيون وكذا رئيس لجنة القطاعات الإنتاجية محمد زردالي، من الاتحاد الدستوري، الذي غادر بسرعة دون أن تستمع إليه الشرطة، فضلا عن عدد من البرلمانيين الآخرين الذين فضلوا الاختفاء وعدم الإدلاء بشهاداتهم، وقد فسرت مصادر سبب عدم رغبة بعض النواب في الإدلاء بالشهادة بعلمهم بوجود صهر فؤاد عالي الهمة ضمن الصيادلة الموقوفين، لكن عناصر الأمن تمكنوا من الاستماع إلى بعض الشهادات، خاصة من برلمانيين من حزب العدالة والتنمية، وأطر آخرين، وهي شهادات وقفت على وقائع ما جرى بعد انتهاء أشغال لجنة القطاعات الإنتاجية، التي عرض فيها الوردي مشروعي قانونين؛ الأول حول «زرع الأعضاء والأنسجة»، والثاني حول «حل هيئتي صيادلة الشمال والجنوب». عندما خرج الوزير من القاعة مصحوبا بعدد من البرلمانيين وأطر وزارته، وجد أمامه الصيادلة فسلم عليهم، قبل أن يتوتر الوضع ويسمع صوت الصراخ، حيث كان عبد الإله المنصوري يخاطب الوزير قائلا: «أنت وزير آخر الزمان»، وعندها تدخل برلمانيون وموظفون لتطويق الحادث، فحضر عناصر الأمن، الذين أدخلوا الصيادلة قاعة في البرلمان، وتم إبلاغ النيابة العامة من طرف رئيس البرلمان، حيث حضرت الشرطة القضائية لتصطحب الصيادلة إلى مركز الأمن. ومن تداعيات هذا الموقف، إصدار رئيس مجلس النواب بيانا استنكر فيه ما حدث، كما قرر المكتب السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة طرد عضوين من الصيادلة شاركوا في التهجم على الوزير في البرلمان من مختلف هياكل الحزب. أما عبد الإله المنصوري، فإنه ينتمي إلى حزب الاستقلال وإلى هيئة صيادلة الحزب.
الهمة والقادري
خلال مهمته كمستشار ملكي، لجأ الهمة إلى القضاء ضد عبد الله القادري، رئيس الحزب الديمقراطي الوطني، بتهمة القذف العلني، وطالبه بتعويض قدره 500 مليون سنتيم. الهمة انزعج كثيرا من التصريحات التي كشف فيها القادري عن مواقف نسبها إليه في حوار تم نشره في جريدة «المساء»، منها التصريح الذي يؤكد القادري أن الهمة تفوه به، ومفاده: «سيدنا طلب مني نشوفك باش ندير حزب في المستوى يلعب دور مهم»، كما اتهم القادري عالي الهمّة ب«وضع يده على أموال الحزب بدون حكم قضائي أو سند». القادري دافع عن موقفه، وقال إنه لم يكن يقصد الهمة حين اتهم الأصالة والمعاصرة بوضع يده على أموال حزبه (الحزب الوطني الديمقراطي)، وذلك على خلاف ما سبق أن صرّح به سابقا، حين أشار إلى اسم الهمّة بشكل مباشر وأكثر من مرة. القادري اتهم حزب الأصالة والمعاصرة بأخذ 200 مليون من حزبه، وتعتبر هذه المرة الثانية التي يتواجه فيها القادري وعالي الهمة أمام القضاء، إذ سبق أن رفع فؤاد عالي الهمة دعوى قضائية ضد القادري في فبراير 2009، في أوج قوة حزب الأصالة والمعاصرة وعرابه، توبع فيها القادري بتهمتي «السب والقذف»، بعدما تفوه بعبارات، في حوار صحفي، اعتبرها الهمة حينها «شائنة في حق شخصه»، وتحدث عن «وقائع من شأنها المس بشرفه»، وطالب ب500 مليون سنتيم كتعويض. المحكمة الابتدائية بالرباط قضت حينها ب80 مليون سنتيم كتعويض لفائدة الهمة، وصدر الحكم النهائي بتاريخ 19 نونبر 2012 لكنه لم ينفذ، بسبب استعطاف القادري للهمة، ما جعل الأخير يتنازل عن حقوقه في الدعوى التي كانت لصالحه.