رجل حليق الوجه، يرتدي بذلة أنيقة، "موّقعة" في الغالب من مصمم مشهور، تَلُف رسغ يده اليسرى ساعة فضية باهظة الثمن، يجر وراءه سجلا حافلا من المناصب الرفيعة، تقلب بينها داخل جهاز الدولة العربية المفلسة، وهو الآن ضيف على قناة دولية، قناة أوروبية ترى أن دور الإعلام هو الدفاع عن الحريات والحقوق، هو هنا في "البلاتو" أو عبر أثير الأقمار الصناعية من أجل مهمة واحدة: تلميع سلسلة من الانتهاكات الفظيعة والأحداث الفاجعة والتراجعات التي ارتكبها ويرتكبها النظام بشكل متكرر وممنهج في حق الناس، ظلما وعدوانا، والتشويش على الأنين العابر للضفة الأخرى، من حناجر الضحايا بضفاف العرب التعيسة. هو على "البلاتو" أيضا لأن مبادئ الإعلام تسمح للجلاد بقول رأيه في القضية، تفتح له بابا للرد على "مزاعم" الضحية، وتفسير سياسة الجلد والظلم من وجهة نظر حقوقية! كما يفهم نظام انقلابي ترسانة الحقوق. هو هنا ليبرر الأسباب الفعلية التي حتمت إصدار قانون سلطوي، أو نسخ – بالأحرى مسخ – قانون متقدم بآخر متخلف. ضيف من الزمن الرديء يقارع "مثيري الفتنة" على أثير القناة بأسلحة الدعاية العربية البئيسة، يؤكد أن الأمثلة المشار إليها لأشخاص تعرضوا للتعذيب والتنكيل والنفي والمطاردة والقتل ما هي إلا حالات معزولة، وأن النظام يحمي المواطنين ويكافح الإرهاب ويدافع عن سيادة البلاد، ويمضي صوت الظلام العربي في "تنوير" الرأي العام، بكل رباطة جأش وتماسك، بدواعي الاستبداد ومبرراته الموضوعية. يتعرض النظام لانتقادات شديدة بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان؟ يسأل الصحافي، يرد الجلاد: العالم كله فيه انتهاكات، في أمريكا يقتلون السود، في أوروبا تسجل انتهاكات، في العالم كله هناك انتهاكات، وهناك رجال شرطة تعرضوا للمحاسبة في هذه القضايا وأدينوا عندنا، وبالتالي فالانتهاكات في البلاد تعالج بشكل محترف، وليست استثناء من ظاهرة عالمية، "تعبنا من هذه التهمة". على هذا المنوال، يرى الجلاد أن تعذيب عشرات من مئات، أو آلاف من ملايين، يبقى "حالات معزولة"، طالما أن النظام الوديع والمتسامح لا يعذّب الجميع، أما انتهاك حقوق إنسان واحد فأمر لا يصح حتى ذكره، لن يفهم الجلاد أبدا حساسية الأدباء والروائيين الذين صنعوا من معاناة سجين أو سيرة منفي حكايات آسرة، في رأسه مهمة واحدة تلميع صورة النظام لمساحة زمنية على قناة دولية، ما يهمه هو مزاحمة الضحية على الحضور الإعلامي، واختلاق انقسام زائف حول قضايا عادلة في أذهان المشاهدين، طمعا في إقناعهم بأن "1+1=2" قضية خلافية وعملية حسابية معقدة. كنت أرصد سلوك الجلاد وأحاول سبر نفسيته، ومن أين يأتي بكل تلك الجرأة وأنا أتابع برنامجا على قناة أجنبية استضافت فيه مسؤولا مصريا، وعرضت عليه مجموعة من الاتهامات والانتقادات التي توجه لنظام السيسي، وهي انتقادات دقيقة وقوية الحجة لنظام يقود البلد نحو الهاوية، بذل المسؤول جهدا حثيثا لإيجاد "تخريجة" ديمقراطية من كل حيف وتهمة، وكنت أتأمل ملامح وجهه الباردة والهادئة وهو يصنع مركبات لغوية رنانة للدفاع عن واقع استبدادي مرير. إنسان مزيّف يظهر كل مرة في قناة من القنوات، حاملا العباءة العربية، ظاهرة إشكالية تحترف تفسير الحاجة إلى الاستبداد، ثم تتحول خطاباتها إلى مقاطع طريفة يتداولها رواد الشبكات الاجتماعية دليلا إما على غباء النظام أو شهادته الذاتية على استبداده، فحديث الجلاد لا يضر ما ظلت عين الجمهور قادرة على رؤيته من خلف ساعة اليد والبذلة الأنيقة والوجه الحليق والكلام المنمق..