اعتبر أستاذ الجغرافيا السياسية بجامعة الحسن الثاني بالمحمدية، مصطفى اليحياوي، ان الدولة تتوجس من تزايد الوعي في الهوامش الاجتماعية. وأفاد في هذا الحوار، ان حادثة وفاة بائع السمك، محسن فكري، في الحسيمة، بمثابة واقعة اجتماعية تتجاوز في أبعادها ذاتية الفرد/المواطن، إلى ما هو أعمق في ما يخص علاقة المجتمع بمؤسسات الدولة. وهذا نص الحوار : هل تعكس المظاهرات التي بدأت منذ 2011 ولادة مجتمع جديد؟ للإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن ندقق أولا فهم مجريات الحدث الأليم الذي شهدته مدينة الحسيمة أخيرا، والذي أودى بحياة المرحوم حسين فكري جراء تدبير أمني روتيني أسفر على إتلاف سمك يعتبره مورد رزقه، بحجة عدم قانونية عملية صيده واقتنائه، ما أسفر عن ارتماء هذا المواطن في شاحنة «الأزبال» المستعملة في عملية الإتلاف، تعبيرا منه عن امتعاضه بسبب إحساسه بالغبن والإهانة من طرف أعوان عموميين يعدون في الوعي الجمعي رمزا للسلطوية وللقمع. هذا الفهم يقودنا إلى اعتبار الحدث بمثابة واقعة اجتماعية تتجاوز في أبعادها ذاتية الفرد/المواطن إلى ما هو أعمق في ما يخص علاقة المجتمع بمؤسسات الدولة، وافتقار هذه العلاقة إلى التوازن المطلوب عادة لتأمين ما يسمى في اصطلاح «سوسيولوجية الحركات الاجتماعية» بالرضى بالعيش المشترك. فبحكم التطور التاريخي الذي عرفته ثقافة المواطنة والوعي بالحقوق خلال العشر سنوات الأخيرة، ابتداء من خطاب الملك حول المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في 18 ماي 2005، والذي اعتبر فيه «الكرامة» قيمة مركزية لإنتاج الأثر الاجتماعي لسياسة عمومية أفقية ترنو إلى تجاوز العجز البنيوي للسياسات الاجتماعية القطاعية، ومرورا بالحراك الاجتماعي لبداية 2011، المعروف اختزالا بحركة 20 فبراير، وانتهاء بدستور يوليوز 2011، أصبح المجتمع مهيأ للتعاطي مع مفهوم «الحق في العيش الكريم»، ليس كعطية تجود بها السلطة تعبيرا عن رضاها عنه، وإنما كواجب على الدولة تأمينه بجميع مؤسساتها لأي مواطن ومواطنة، ولا يقتصر فقط على المساواة في المعاملة وتكافؤ الفرص، وإنما يشمل أيضا الإنصاف. فمع تقدم الوعي بقيمة «الكرامة»، أصبح المواطن أكثر تحررا من الخوف في التعامل مع «سلطة القهر المشرعن»، الذي تمثله قرارات المصالح العمومية، فأصبح الأهم في تصوره ليس أن يوافق سلوكه ما تنص عليه المساطر، وما يفرضه الموقع الاجتماعي «للمؤسسة» من وجاهة وسمو يقتضي احترام وجودها الاعتباري وسط المجتمع، بوصفها ذات وظيفة تنظيمية حائزة الشرعية الملزمة للخضوع والتسليم بأدوارها الضبطية للسلوكات اليومية للأفراد والجماعات. إذن، نحن إزاء تطور متسارع في المطلب الاحتجاجي؟ أعتقد أننا بصدد تحول مجتمعي قيمي اقتضاه الوعي المتزايد بالحق في المواطنة واستئناس المغاربة بالممنوع. هذا الواقع يؤدي، مع تطور مسار الانتقال نحو الديمقراطية، إلى ضرورة إعادة النظر في طريقة التعبئة الاجتماعية حول مبتغيات إصلاح بنيات الدولة، كما يقتضي من الدولة (المصالح المركزية والخارجية) والأحزاب والمؤسسات التمثيلية (البرلمان والمجالس المنتخبة)، خاصة، أن تركز اهتمامها في الولاية التشريعية العاشرة على وضع تصورات واضحة وعملية حول الدولة الاجتماعية. فلا يكفي أن ندستر الحقوق الأساسية والديمقراطية التشاركية، وربط المسؤولية بالمحاسبة، لأن حاجة المجتمع إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وإلى منظومة تضامن وطني قائم على الإنصاف والمساواة، أصبحت أولوية لا تقبل التأجيل ولا المعالجات الترقيعية التي تجود بها الدولة في لحظات فلكلورية على المواطن. ممَّ تتخوف السلطات أكثر؟ تتوجس مصالح الدولة من اتساع نطاق «التوتر الترابي» (Stress territorial)، ومن تزايد الوعي في الهوامش الاجتماعية (Marges sociales) باستعجالية القضاء على مظاهر الفساد، ومن تنامي أشكال الاحتجاج الشعبي، كما أنها تعي أنها لا تستطيع في كل مرة أن تلجأ إلى قمع أو تخوين أو التشكيك في استقلالية المبادرات الاحتجاجية المعبأة تلقائيا دون أي مطلبية سياسية محددة، لأن ذلك سيزيد في فقدان المجتمع الثقة في صدقية إرادتها في التغيير، والتفعيل الحقيقي للمقتضيات الدستورية الجديدة. ولعل في تاريخ الحركات الاحتجاجية المعاصرة كثير من العبر التي تؤكد أن هذا التعاطي السلبي للدولة مع تنامي ثقافة الاحتجاج لدى المواطنين، فيه من سوء التقدير ما يدعو إلى التخوف من تداعياته ومن نتائجه العكسية، سواء على مستوى الاستقرار الاجتماعي والسياسي، أم على مستوى إنجاح مسار الانتقال الديمقراطي والقطع مع مظاهر السلطوية التي طبعت نصف قرن من تأسيس الدولة المستقلة.