لا ينتبه جل المغاربة إلا إلى ميزان واحد في المغرب، ويتألمون كل يوم لأن كفته مائلة وأحواله لا تسر.. إنه ميزان العدالة المريضة منذ زمن في المملكة الحزينة لكن هناك ميزانا مائلا هو الآخر على طول السنة، بل وقد مرت عشرات السنين على ميلانه وهو في ازدياد. إنه الميزان التجاري المغربي مع الخارج. نحن أمة تأكل مما لا تزرع، وتلبس مما لا تنسج، وتشرب مما لا تعصر. سنويا نستورد من الخارج 379 مليارا من السلع والخدمات والمحروقات والألبسة والمعادن... في حين لا نصدر إلى الخارج سوى 182 مليار درهم، أي أن صادراتنا لا تغطي سوى 47 في المائة من وارداتنا، وهذا معناه أننا نستهلك أكثر منا ننتج، وأن حصتنا من القيمة المضافة العالمية حصة ضئيلة، وأننا بلد لا يستفيد من السوق الدولية المفتوحة، وأنه يعيش على استهلاك ما ينتجه الآخرون، والنتيجة أن البلد متخلف يعيش عالة على أمم الأرض المتقدمة... عندما ندقق في ما نصدره إلى العالم، ماذا نجد؟ أول صادراتنا إلى العالم هو الفوسفاط وهو منحة من السماء (يمثل حوالي 22 في المائة من صادراتنا، وسنة 2013 ساهم ب37 مليار درهم من قيمة الصادرات)، ثم تأتي المنتوجات الغذائية بما فيها الفواكه والخضر والسمك، وتمثل 18 ٪ من صادراتنا، وتساهم ب33 مليار درهم سنويا، ثم تأتي صناعات الجلد والنسيج، وهي في تراجع مستمر كل سنة، وتساهم ب17 في المائة، ثم تأتي صناعة السيارات وهي وصناعة الطيران تشكلان النقطتين المضيئتين في هذا الباب، وتساهم صناعة السيارات ب17 في المائة من صادراتنا، كما تساهم صناعة الطيران ب4 في المائة، فيما تساهم صناعة الإلكترونيات ب5 في المائة، والباقي متفرقات... هذا كل ما نصدره إلى الخارج، وكما تلاحظون، فإن القيمة المضافة فيه صغيرة جداً، والمادة الرمادية ضئيلة جداً، والابتكار والاختراع فيه محدودان جداً. أغلب ما نصدره هو الفوسفاط، السمك والخضر والفواكه وعرق اليد العاملة الرخيصة التي تشتغل بدون خبرات كبيرة ولا إبداعات مهمة في قطاع النسيج والجلد وتركيب السيارات... هذا معناه أننا نصدر فقط هبات الله لهذه الأرض، أما حصيلة عمل البشر والحكومات والسياسات فلا شيء تقريبا. هل يصح أن نقارن كل ما نصدره كبلد له تاريخ وحضارة وجغرافيا بما تصدره شركة كورية جنوبية واحدة من منتوج واحد هو الهواتف الذكية؟ سنة 2013 باعت سامسونغ 8.1 ملايير دولار من هواتفها الذكية. بدون تعليق! مفهوم أن نستورد المحروقات لأننا بلد غير نفطي (نستورد 102 مليار درهم كل سنة من الغاز والبترول والفيول، وحتى هذه الفاتورة يمكن تقليصها إذا اعتمدنا على مصادر الطاقة البديلة)، لكن أن تظل فاتورة استيراد القمح والسكر والذرة وباقي المنتوجات الغذائية أكثر من 37 مليار درهم كل سنة، في بلد يعرِّف نفسه بأنه بلد فلاحي، فهذا يخرج العقل من مكانه. أكثر من هذا، في بلد يتوفر على مخطط يسمى المخطط الأخضر وتصرف الدولة على هذا المخطط ما بين 7 و8 ملايير درهم كل سنة، مازلنا نستورد 37 مليار درهم من القمح والسكر والشعير، كما كان الأمر قبل هذا المخطط الأخضر.. هذه غرائب لا تقع إلا في المغرب ولا أحد يفتح فمه. إلى الآن لا يوجد تقييم جدي لهذا المخطط المسمى أخضر، والذي يستطيع أي مواطن، دون أن يكون خبيرا، أن يرى نجاحه من فشله، في فاتورة ما تستورده المملكة كل سنة من الخارج من منتوجات غذائية، وإذا ما تجرأ أحد ووضع سؤالا حول نتائج هذا المخطط، وليس حول أهدافه الجميلة على الورق، فإن الوزير الملياردير عزيز أخنوش يغضب بسرعة، ويعمد إلى إجراءات عقابية فعالة ضد كل من يقترب من مخطط لا يرى خضرته إلا سعادة الوزير، الذي صار شبه مقدس في الوقت الذي أسقط الدستور الجديد القداسة عن الملك! الدول المتقدمة تصدر منتوجات العقل البشري غالية الثمن (الصناعة)، والدول المتخلفة تصدر منتوجات الأرض متدنية القيمة (المواد الأولية والفلاحية)، هذا هو محك محاسبة الحكومات والسياسات العمومية في المغرب وليس المعارك الفارغة التي تدور بين الطبقة السياسية في البرلمان وعلى أعمدة الصحف. دون مخطط صناعي طموح ونظام تعليمي متطور وبنية تحتية قوية سنظل خارج سوق الإنتاج العالمي، وسيظل وزن المغرب وزن ريشة لا يعبأ به أحد.