حملات يومية في الصحف.. مسيرة في الدارالبيضاء ضد الأخونة.. دعوات إلى التصويت العقابي ضد الحكومة من طرف أكبر نقابة في المغرب.. حملة من طرف الباطرونا.. انتقادات من بنك المغرب.. اتهامات أخلاقية.. كل هذا كان جزءا من مشهد تعبئة عام كان هدفه منع البيجيدي من الفوز في الاستحقاق الانتخابي في 7 أكتوبر، لكن النتيجة كانت معاكسة، حيث فاز في النهاية وتصدر المشهد السياسي ب125 مقعدا، وتولى الملك محمد السادس تعيين عبدالإله بنكيران رئيسا للحكومة لولاية ثانية. الخاسرون الكبار، الذين خاضوا هذه الحملات لاذوا بالصمت بعد ظهور النتائج، بعدما تبينت محدودية دعواتهم على الشارع رغم الضجة التي أثارتها في الأوساط السياسية والإعلامية. فلماذا لم تجد هذه الدعوات صدى لها لدى الناخبين؟ هل بسبب صلابة القاعدة الانتخابية للبيجيدي؟ أم بسبب عدم ثقة الشعب في الجهة التي تقف وراء هذه الحملات؟ من خلال قراءة نتائج الانتخابات التي حصل عليها البيجيدي منذ 2011، يتبين استقرار قاعدته الانتخابية وتطورها، فقد حصل على مليون و200 صوت في اقتراع 25 نونبر 2011، ب107 مقاعد، وكان الفرق بينه وبين الحزب الذي حل ثانيا وهو حزب الاستقلال هو 47 مقعدا، وهو فارق غير مسبوق في تاريخ الانتخابات المغربية. وصل البيجيدي لأول مرة للحكومة إثر تلك الانتخابات محمولا على أمواج الربيع العربي، وكان مقررا أن تجري الانتخابات الجماعية بعدها في 2012، ثم تأجلت إلى 2013، ثم إلى 2015، والسبب هو الخوف من أن يكتسح البيجيدي مجالس المدن. كان الاعتقاد السائد أن تجربته الحكومية، وقرارات بنكيران «غير الشعبية»، في مجال إصلاح المقاصة، والتقاعد، ستؤثر على أصوات الناخبين، لكن رغم تأجيلها إلى 2015، حصلت المفاجأة وتبين أن الناخبين منحوا البيجيدي الصدارة في معظم المدن الكبرى، وارتفعت أصواته إلى مليون و600 ألف صوت، كما أنه وصل إلى مناطق لم يكن موجودا فيها من قبل، خاصة بالعالم القروي. هناك من يعتقد أن الحملات التي واجهها البيجيدي قُبيل اقتراع 7 أكتوبر، كانت بسبب «المفاجأة» التي حققها الحزب في الانتخابات الجماعية في 4 شتنبر. ضمن هذا السياق يقول غسان المراني، الأستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط: «إن الحملات التي تعرض لها البيجيدي كانت عملية ممنهجة هدفها هو إضعاف حزب العدالة والتنمية، خاصة بعد النتائج التي حصل عليها في الانتخابات الجماعية في 2015، والتي اعتبرت مفاجأة». وبما أن موعد الانتخابات التشريعية لا يبعد عن اقتراع الجماعات المحلية إلا بسنة واحدة، فقد كان هناك خوف من أن تنعكس نتائج البيجيدي في المدن على نتائجه في مجلس النواب. كانت التقديرات داخل البيجيدي تشير إلى أنه اعتمادا على خريطة الأصوات في شتنبر 2015، فإن العدالة والتنمية سيحصل على ما بين 130 و140 مقعدا في البرلمان، في 7 أكتوبر. بدأت محاولات تقليص فرصه في الفوز عبر إجراءات اتخذتها وزارة الداخلية بتخفيض العتبة الانتخابية من 6 إلى 3 في المائة، ثم تلاها، تقييد الداخلية لعملية التسجيل الإلكتروني، ومنع استطلاعات الرأي. وبالموازاة مع ذلك بدأت الحملات في الإعلام، وتم تجنيد النقابات، وكذا الباطرونا، وتم التركيز على سلاح قديم وذي تأثير كبير في المجتمع وهو الحملات الأخلاقية لاستهداف قيادات البيجيدي، فلماذا لم ينجح هذا السلاح الأخير؟ هل بسبب عدم اقتناع الرأي العام بجدية تلك الاتهامات، وتعاطفه مع المتهمين، أم لأسباب أخرى؟ عبدالله ساعف، الأستاذ بجامعة محمد الخامس، اعتبر أن مواقف كل من الباطرونا، والاتحاد المغربي للشغل مثلا «لم تجد لها صدى في لدى الناخبين، لأنها بقيت في مستويات فوقية، ولم تنفذ إلى المجتمع». بخصوص الباطرونا مثلا، لاحظ ساعف أنه «لا أثر لمواقفها»، أما الاتحاد المغربي للشغل، فإنه «منذ أن انفصل عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، لم يعد له تأثير في السياسة»، لأن النقابة «أصبحت غير فاعلة في الحياة السياسية». هذا التفسير يتقاطع مع رأي أحمد بوز، الأستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط، الذي يرى أن نقابة مخاريق «ليست قوة موحدة، بل هي شعوب وقبائل غير منسجمة، منها من ينتمون إلى التقدم والاشتراكية، ومنها من ينتمون إلى الاتحاد الدستوري، ومنها العدل والإحسان». مخاريق نفسه، أقر أن البيجيدي فاز بسبب «قاعدته الانتخابية التي لا دخل للاتحاد المغربي للشغل فيها». لكن ماذا عن سلاح الحملات الأخلاقية الذي تم اللجوء إليه؟ عبد العزيز قراقي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط، يرى أن الحملات الأخلاقية لم يعد لها أثر في المجتمع المغربي، لأن «المغاربة اليوم لم يعودوا يتدخلون في الحريات الخاصة للأفراد»، ويرى أنه «وقعت تحولات في الأسر المغربية أفرزت تحولا في المجتمع، جعلت مثل هذه الحملات تأتي بنتائج عكسية»، فضلا عن كل هذا، فإن: «كثيرا من المغاربة أصبح لهم حس نقدي، إذ لا يقبلون بما يُقال لهم على أنه حقيقة مطلقة، وبالتالي ليس سهلا إقناعهم». محمد بوز، قدم قراءة في الآثار المحتملة لهذه الحملات، وقال: «في غياب معطيات دقيقة، فإن عدة احتمالات تبقى قائمة، فمن جهة قد تكون هذه الحملات ساهمت في تقليص مقاعد البيجيدي، فعوض أن يحصل على 160 مقعدا حصل على 125، وقد تكون ساهمت في الدفع بحزب البام كثيرا ليضاعف مقاعده»، لكن المؤكد، حسب بوز، هو أن هذه الحملات لم تنجح في منع البيجيدي من تصدر النتائج. لكن لماذا لم تكن لهذه الحملات أي أُثار على القاعدة الانتخابية للبيجيدي؟ يرجح بوز احتمال حصول نتائج عكسية للحملات ضد البيجيدي وعن ذلك يقول: «من الممكن أن عددا من الناخبين كان لهم رد فعل معاكس، لتقديرهم أن البيجيدي يتعرض لحملة لإبعاده عن الحكومة ولهذا صوتوا له». هناك مثال آخر لمحدودية أثر مثل هذه التحركات، وهو دور السلفي محمد المغراوي، الذي تم «إغراؤه» بفتح دور القرآن مقابل التصويت على «البام». وهنا يلاحظ بوز أنه رغم دعوات المغراوي لأنصاره للتصويت على «البام»، فإن البيجيدي حصل على 5 مقاعد من أصل 9 بمراكش. داخل حزب العدالة والتنمية، كانت هناك مخاوف جدية قبل يوم الاقتراع، من أن يتم تجاوز الحملات ضد الحزب إلى حد التأثير على النتائج. عبد العلي حامي الدين، البرلماني بالغرفة الثانية، وعضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، يقول إنه منذ تشكيل هذه الحكومة وهي تواجه «حملات إعلامية منسقة»، عملت على «تبخيس عملها والتشويش على مشاريعها، وازدادت هذه الحملات الدعائية شراسة بعد نتائج الانتخابات الجماعية والجهوية التي شكلت نتائجها صدمة لخصوم هذه التجربة». وقبيل انتخابات أعضاء مجلس النواب، لاحظ تضاعف الحملات بدءا «بتفجير الحوار الاجتماعي من الداخل، وفبركة العديد من الاحتجاجات الاجتماعية وتخصيص عدد من الصحف والمواقع الإلكترونية لإثارة العديد من القضايا الشخصية من منظور فضائحي مفتعل»، بالإضافة إلى «تنظيم مسيرة غريبة عن السياق السياسي المغربي». بالنسبة إلى حامي الدين، فإن هذه الحملات قد تكون ساهمت في «دفع عدد كبير من المواطنين والمواطنات إلى التصويت الإيجابي لفائدة العدالة والتنمية»، بل «كان لها مفعول عكسي».. ويظهر أن تفسير فشل أسلوب الحملات ضد البيجيدي، يتراوح بين أسباب مرتبطة بصلابة التنظيم الداخلي للحزب، ومتانة قاعدته الانتخابية، وبين الصورة والموقف اللذين تشكلا لدى الرأي العام بسبب هذه الحملات، لكن حسب عبدالمنعم الأزعر، الباحث المتخصص في العلوم السياسية، فإن هناك ثلاثة عوامل تفسر فشل هذه الحملات ضد البيجيدي الأول، يستند إلى ضعف الحاضنة المجتمعية والسياسية للباطرونا وبعض الجمعيات، «وهو ما جعل التعبئة تبدو كبنادق صيد محشوة برصاص مطاطي فارغ»، هذا العامل يقوم على أساس أن قوة تأثير أي تنظيم تُستمد من وزنه السياسي والاجتماعي و»كل تنظيم لا يتوفر على هذا الوزن لا يمكنه أن يؤثر في اللعبة الانتخابية وفي مخرجاتها». أما الثاني فيفسر عدم تأثر النتائج الانتخابية لحزب العدالة والتنمية بتعبئة الخصوم، «بعناصر من داخل الحزب» وليس من خارجها، أي إن الحزب «أصبح مع مرور الوقت أكثر قوة وأصبح وزنه الانتخابي مستقرا»، أما الثالث، فيرى بأن محطة 7 أكتوبر 2016 هي محطة تعزيز مسيرة «لبرلة» المشهد الانتخابي، «وبالتالي، فإن أي عوامل أو تعبئة أو تدخل معاكس لمسار «اللبرلة» الانتخابية سيكون مآله الفشل في ظل وجود ناخب يقظٍ أصبح أكثر وعيا وأكثر تشبعا بفضائل التنافس الديمقراطي». لكن ماذا بعد فشل أسلوب الحملات؟ كيف سيكون وضع المعارضة مستقبلا، وكيف سيتصرف حزب الأًصالة والمعاصرة؟ أحزاب المعارضة التي قضت 5 سنوات تناهض حكومة بنكيران، والتي كان يفترض أن تتقدم في الانتخابات، عرفت تراجعا كبيرا خاصة حزب الاستقلال الذي فقد 14 مقعدا، والاتحاد الاشتراكي الذي فقد 19 مقعدا مقارنة مع انتخابات 2011. وحده «البام» ضاعف من مقاعده وأصبح يتوفر على 102 مقاعد بفضل استقطابه للأعيان، وعمليات تعبئة عامة واضحة لصالحه. هناك من يرى أن الخطاب السياسي لحزبي الاستقلال والاتحاد ومشاكلهما الداخلية ساهما في إضعافهما وسيكون عليهما الخضوع لمراجعة شاملة لبث روح جديدة في هياكلهما المنهكة، لكن كيف سيكون وضع «البام» ب102 مقاعد، أغلبهم أعيان. وهل لازال له مستقبل سياسي بعد فشله في الوصول إلى الرتبة الأولى؟ من جهته يقول محمد مدني، أستاذ العلوم السياسية، بالرباط، «الأعيان بدون رعاية وتوجيه الدولة هم مجموعة أشخاص لا تأثير لهم، وما يحركهم هو الدفاع عن مصالحهم». وعن مستقبل «البام»، يرى أنه «يرتبط بالكيفية التي سيتم بها تقييم المرحلة السياسية، والخلاصات العملية التي سيتخذها المقررون داخل الحزب أو من خارجه، وأيضا بالأهداف المستقبلية، خصوصا العلاقة بباقي الأحزاب السياسية».