«لماذا حققت كتب بعينها أرقام مبيعات «خيالية»؟ هل للأمر علاقة بالموضوعات التي تتم معالجتها؟ أم بطريقة الكتابة والصياغة؟ أم بوجود اهتمام واسع من قبل القراء؟ في هذه الحلقة نتذكر التعاطف الكبير الذي استقبل به القراء صرخة رشيدة اليعقوبي عندما تناولت رشيدة اليعقوبي القلم، وهي في سن الثالثة والأربعين، من أجل تدوين شهادة مأساتها وبؤسها، باتت مثار سخرية أبنائها، الذين لم يدركوا أن الشجاعة هي كل ما يملك المرء أحيانا. وبالفعل، قادت الشجاعة هذه المرأة نحو أفق أوسع، هو أفق القراءة، من خلال كتابها الصادرة سنة 2002 ضمن منشورات «إيديف» باللغة الفرنسية تحت عنوان «Ma vie, mon cri» (حياتي صرختي). إذ حقق هذا الكتاب، الذي تقدم فيه مؤلفته شهادة صادمة عن الطلاق، انتشارا واسعا. أدرج بعض النقاد كتاب «حياتي صرختي» ضمن محكي الحياة، ذلك أنه يروي مقاومة امرأة مطلقة للإغراءات الكثيرة، التي قد تضمنُ لها حياة رغيدة، مفضلة العيش في حي صفيحي حفظا لكرامتها، وصونا لوقار أبنائها. تقول الكاتبة: «تعالي أطلي هذا الوجه الذي يشبه وجه رجل بالمساحيق.. وبعد ربع ساعة كانت رشيدة بعيدة، لابسة لباسا فاخرا، مزينة.. لم أعرف نفسي في المرآة. اختفت صورة الأم الحنون لتحل محلها صورة إحدى محترفات المواخر. كنت على أهبة لإتقان هذه المهنة التي استدرجتُ إليها..كان الإغواء قويا، وكانت المساعدة مغرية.. أعادتني القوى الغيبية إلى الصواب، وحضرتني صورة أبنائي. وشيئا فشيئا اختفت عن الأنظار المرأة القدرية التي عكستها المرآة. كنت غيورة على دوري كأم لا يضاهيها أي ثمن. كيف يمكن لي أن أعرضه على المزايدة؟» ص42. لقد فضلت الكاتبة، كما تقول، العيش داخل صفيح ساخن صيفا وبارد شتاءً، والركون إلى الإقصاء والقبول بالبؤس وشظف العيش، سلاحها الوحيد الشجاعة، والرغبة في استقلال الذات، والوفاء لكرامتها. هكذا، تفرض الكاتبة ذاتها بقوة باطنية، ودون مواربات أو مناورات، بعيدا عن كل الإملاءات. تسائل ذاتها، وهي تكتب، وأحيانا تستفز وتزعج الآخرين وتتهمهم. تتوجه بالكلام إلى كل الذين تفادوا النظر إليها، وأغلقوا الأبواب في وجهها. يقول الناقد محمد الداهي في مقالة منشورة في موقع وزارة الثقافة: «لا تراهن الساردة فقط على إمتاع القارئ بمحكي حياتها وإنما حفزه على تصديقها. ولهذا تحرص على إضفاء المصداقية عليه موهمة بأنها سردته بصدق وأمانة ودقة، والتواصل مع شريحة عريضة من القراء (ضمان المقروئية والشفافية والتماهي العاطفي، والإكثار من الرواسم، وتكرار بعض الأحداث والمشاهد)، وخلق الانطباع بالواقع (اتسام أسماء الأعلام والأمكنة والأزمنة بأثر الواقع). ورغم افتقار هذا النوع من الكتابة للطابع الفني، فهو لا يخلو أحيانا من ألاعيب التضليل والتمويه والنسيان التي تضفي التخييل على التجربة المعيشة، وتجعل الحقائق المعروضة ملونة بالطابع النسبي وبالأحكام والأهواء الذاتية». ومن هنا، فالكتاب هو بمثابة صرخة روح مأزومة تعيش محنة خانقة. وهو شهادة حياتية (محكي حياتي بتعبير النقاد) تروي اندحار شابة تعيش في بحبوحة، يوما بعد يوم، نحو الحضيض، تروي كيف أن هذه الشابة تهوي من عش الزوجية الرغيد إلى عالم حي صفيحي كريه ذاقت فيه أسوأ أشكال التهميش والإقصاء. هكذا، اكتسى الكتاب طابع صرخة تسائل وتزعج بصراحتها، مثلما تدفع نحو التأمل وإعادة النظر في الحياة برمتها. يعود نجاح هذا الكتاب، الذي جاء بعد مرور عشر سنوات عن الطلاق، إلى الصراحة التي تحدثت بها الكاتبة عن مأساتها الحياتية، وكذا إلى مقاومتها الحل البسيط في الحياة: الانغماس في إشباع رغبات الآخرين بالمقابل. هذا الاختيار جعل منها نموذجا مثاليا يقتدى به. أضف إلى هذا أن الكاتبة جعلت من تجربتها الشخصية تجربة عامة تلخص معاناة الآخرين، فهي لا تتحدث باسم واحد، لأنها تدرك أن نساء أخريات يعشن التجربة ذاتها. كما تسعى إلى إيصال رسالة مفادها أن المرأة البئيسة يمكن أن تصل إلى شط النجاة، رغم الأمواج العاتية، دون أن تفقد الأمل والحب والأمومة والإيمان. كل هذه الأمور جعلت الكتاب يحظى بإقبال كبير، خاصة من طرف النساء. ومن جهة ثانية، يمكن القول إن نجاح الكتاب مرده إلى كونه يعرض درسا حياتيا قاسيا ينبه إلى تقلبات الحياة وعدم الاطمئنان دائما إلى وضع مستقر وثابت ومريح. كما يعرض موقفا أخلاقيا ينبه، أيضا، إلى ضرورة الحفاظ على شخصية الإنسان من التعفن والركون إلى الحلول البسيطة. وإلى جانب هذا، فهو يستنطق المناطق المهمشة في حياة ساكن الصفيح، ويلقي بالمسكوت عنه إلى السطح، حيث تسلط الكاتبة الأضواء على هذا المسكوت، دونما رفض له، وإنما بتوجيه دعوة مبطنة إلى الاهتمام به.