أمر عادي أن يدافع باحث سياسي مستقل عن خيار الإسلام السياسي، لكنه يصبح خيارا صادما وخارج الإجماع ومثيرا للجدل لما يتبناه بقوة ويدافع عنه فكريا فاعل سياسي تربى وتشبع وناضل في التيار اليساري، كالباحث السياسي يوسف بلال . تبدو خارج الإجماع اليساري الذي تنتمي إليه، بدفاعك عن إمكانية توافق بين اليسار والإسلاميين من أجل مشروع ديمقراطي بمرجعية إسلامية؟ للأسف لازلنا نعيش نوعا من التبعية للغرب في الكثير من المفاهيم، كالعلمانية وفصل الدين عن السلطة بدون أخذ مسافة نقدية..وما أنتقده اليوم في اليسار المغربي هو تبنيه لفكر ليبرالي، وتخليه عن هويته ومبادئه الكبرى خصوصا في علاقته بالنظام وبالغرب وبالماضي، حيث لم يعد اليسار يتمتع بالاستقلالية عن السلطة، ولم يعد يطرح إشكالات الاستعمار الجديد والتبعية الثقافية والاقتصادية للغرب، وأحدث قطيعة مع الهوية والماضي والتراث الإسلامي، وهذا ما أضعفه. أظن أنه لا يجب تقديس الحداثة وكأنها قرآن منزل، بل يمكن إيجاد أرضية توافقية ومصالحة بين الفكر اليساري والتراث الإسلامي.
لا أفهم كيف يمكننا التوافق على قواعد ديمقراطية بين اليسار والإسلاميين في ظل التعددية الإيديولوجية اليسارية وتنوع المرجعيات الإسلامية ؟ يمكن تحقيق ذلك عبر خيارين: الخيار الأول هو تحقيق توافق بين كل الفرقاء اليساريين والإسلاميين حول قواعد العملية الديمقراطية وبلورة مشروع مجتمعي مشترك ..والخيار الثاني هو خلق قطب سياسي جديد يجمع بين اليسار والحركة الإسلامية إما بشكل مرحلي ومؤقت، أو عبر خلق قوة جديدة نسميها اليسار الإسلامي. فلو أخذنا كمثال حزب العدالة والتنمية ككتلة ناخبة ونظرنا لعلاقته بالأخلاق في العمل السياسي، يمكن اعتباره امتدادا لليسار لأنه يحمل نفس قيمه ومبادئه في السبعينات.
لما تتحدث عن تشكيل قطب سياسي يساري إسلامي، تبدو وكأنك تحلم، كيف يمكن خلق توافق أو إمكانية تقارب في ظل الصراع الإيديولوجي العنيف بين الطرفين ؟ لما أتحدث عن اليسار، لا أقصد الأجهزة، بل أتحدث عن الفكر اليساري.. فأنا لا أنتظر تحقيق هذا القطب من أجهزة أحزاب مثل الاتحاد الاشتراكي أو التقدم والاشتراكية لكي أكون واضحا. الفكر اليساري والحركات ذات المرجعية الإسلامية، يشتركان في فكرهما التحرري من السلطوية والتبعية الاقتصادية والثقافية. ولو سألت اليوم أي مغربي عن هويته سيقول الإسلام، علينا أن نعترف بهذا الواقع .
كلامك يتناقض تماما مع العديد من الأصوات اليسارية التي لا تؤمن بإمكانية قيام نظام ديمقراطي بدون تبني العلمانية وفصل الدين عن السلطة؟ لا يجب السقوط في فخ الخطاب المستورد حول العلمانية وحول شيطنة الحركات الإسلامية، لأنه خطاب تتبناه اليوم نخبة فكرية لها مصالح مع الغرب وخصوصا فرنسا. فالبديل اليوم ليس العلمانية، بل تبني نظام فيه تعايش وتعدد على مستوى القيم، وهذا ممكن انطلاقا من المرجعية الإسلامية وانطلاقا من الفكر المقاصدي والحضارة الإسلامية، لا أحتاج اليوم أن أكون علمانيا كي أتعايش وأحترم أطراف أخرى في المجتمع .
ولكن كيف يمكن أن نحترم قيما كونية لحقوق الإنسان كحرية المعتقد مثلا، في ظل هذا النموذج الذي تقدّمه، كيف يمكننا أن نتساوى كمواطنين رغم اختلافنا العقائدي ؟ هناك اجتهادات فكرية وفقهية في تجارب دولية متعددة كإيران وتركيا، وهناك اجتهادات من داخل الحركة الإسلامية المغربية في إطار الفكر المقاصدي تفتحُ إمكانية الحوار ..نأخذ مثال إصلاح مدونة الأسرة، ففي نسختها الأولى ذات المرجعية اليسارية التي قدمتها حكومة اليوسفي سنة 2000 أثارت جدلا واسعا ، وفي نسخة 2004 تم تبنيها بدون ردود فعل رافضة رغم أنها حافظت على نفس المضمون بل كانت متقدمة في بعض البنود، وهذا لأنها اعتمدت في إطار المرجعية الإسلامية على اجتهادات فقهية حتى من خارج المذهب المالكي .
لكن هذه الاجتهادات الفقهية كانت تحت الطلب لإعطاء غطاء ديني لإصلاح مدونة الأسرة الذي قررته أعلى سلطة في البلاد، أعني أن الإصلاح بالمرجعية الإسلامية لا يكون بآليات ديمقراطية بل سلطوية ؟ لا تنسيْ أيضا بأنه كان هناك ضغط من المجتمع وتعبئة من أجل الإصلاح وليس فقط إرادة فوقية، وهذه الاجتهادات الفقهية كانت متواجدة في الساحة .
ولكننا التجأنا إليها لما توفرت إرادة السلطة ؟ لكن تظل الاجتهادات الفقهية دائما موجودة، ويمكن اليوم اعتماد نفس المنهجية في إصلاح أمور أخرى والانطلاق من قضايا مطروحة للنقاش في المجتمع، فهناك اجتهادات مهمة حول الديمقراطية وحرية المعتقد، من طرف أحمد الريسوني مثلا، متقدمة جدا عن الخطاب الديني للمجلس العلمي ..ففي قضايا متعددة تكون اجتهادات الحركة الإسلامية المغربية متقدمة عن المؤسسة الدينية الرسمية التي تقدم نفسها على أنها حداثية ومنفتحة. لأن الحركة الإسلامية منبثقة من رحم المجتمع وهي في تفاعل دائم معه. هذا لا يعني أن نظل سجيني المرجعية الإسلامية بل يجب الانفتاح على مرجعيات أخرى أمازيغية وكونية .
هل هذه الخلاصة وصلت إليها بناءا على قناعة فكرية نابعة من تحاليل علمية كباحث سياسي، أم نقرأها كاعتراف شجاع من فاعل يساري بأن التيار الإسلامي أصبح اليوم قوة و أمرا واقعا ويجب الحوار والتوافق معه ؟ لو كان كلامك صحيحا، لما دمت في هذا الالتزام الواضح والمبني على أسس فكرية صلبة. نعم تربيت في أسرة يسارية، ولكن كانت لي فرصة التفاعل والحوار من خلال بحثي العلمي مع الحركة الإسلامية كالعدل والإحسان والعدالة والتنمية. كما أنني مؤمن بحقنا كشعوب إسلامية في الإبداع والابتكار وتطوير مشروعنا الفكري الخاص ..هل علينا أن نظل في تبعية للمفاهيم الغربية؟ هل يعقل أن تفرض أقلية فرنكفونية ترتبط مصالحها بالغرب، اختياراتها وتوجهاتها الإيديولوجية العلمانية على الأغلبية فقط لأنها تمتلك سلطة القرار ؟ أنا لست ضد الآخر، أنا منفتح وأحاضر في الجامعة الأمريكية وأتحدث أربع لغات، ولكنني أرفض هذه الهيمنة والتبعية للغرب. نحتاج اليوم لبناء مشروع مجتمعي وحضاري بمرجعيتنا الخاصة وبالمصالحة مع الماضي، وهناك نماذج دولية حققت تقدما بالرجوع لتراثها وثقافتها كالصين والهند وكوريا وتركيا في السنوات الأخيرة .
هل بسبب هذه القناعات، قدمت استقالتك من حزب التقدم والاشتراكية الذي كنت قياديا في مكتبه السياسي ؟ قدمت استقالتي، بسبب تراكم عدة مواقف تتناقض مع مبادئ الحزب، أولها الموقف السلبي والمتحفظ من حركة 20 فبراير، ثم النقاش حول الدستور والمذكرة المحافظة التي قدمها الحزب والذي أصبح همه هو إرضاء القصر، وأيضا بعض المقالات التي كتبت عن الملكية وعن الاستبداد والتي أثارت حفيظة جزء من القيادة لدرجة التهديد باتخاذ إجراءات تأديبية في حقي ..
أظن أن القطرة التي أفاضت كأس غضبك على الحزب كانت موقفه من معركة دفاتر تحملات القطب العمومي ؟ وأيضا موقف قيادته المتحفظ من الكشف عن لائحة الكريمات، كنت أدافع عن التحالف مع العدالة والتنمية وعن مساندته في معركته لمحاربة الفساد، وقد صدمني رد فعل أمين عام الحزب نبيل بن عبد الله السلبي من القضيتين، لقد أصبح حزب التقدم والاشتراكية يدافع عن مصالح القصر ضد العدالة والتنمية والحكومة المنتخبة .
في كتابك الأخير «الشيخ والخليفة «قلت عن حزب العدالة والتنمية بأنه يمثل النموذج الحداثي، هل نقرأ هذا الإعجاب كاحتمال وشيك للانضمام إليه ؟ هناك حزبين فقط أشعر بأني قريب من مبادئهما وأعتبرهما الأكثر ديمقراطية هما الاشتراكي الموحد والعدالة والتنمية .
ما الذي يجمع بين الحزبين؟ النزاهة والأخلاق والاستقلالية عن السلطة رغم اختلافهما الإيديولوجي.
لو تلقيت عرضا بالانخراط من هذين الحزبين، لمن تميل أكثر؟ ليست أمامي عروض أو خيارات الآن، لكن قناعتي اليوم هو أن البديل المطروح لمستقبل المغرب هو العمل من داخل الحركة الإسلامية، لأنها الفاعل الأمثل الذي يمتلك كل المؤهلات لقيادة التغيير بالمغرب والعالم العربي.