جاءت حركة 20 فبراير لتكتب الفصل المغربي من كتاب الربيع العربي، وتغير من وجه المجتمع والدولة المغربيين بشكل لم يسبق أن حققته أي من التحركات الشعبية التي عرفها المغرب في تاريخه الحديث. مرت الآن قرابة ثلاث سنوات على سقوط الرئيس التونسي السابق بنعلي (14 يناير) وما أعقب ذلك من أحداث خفقت لها قلوب المغاربة، وارتعدت فرائص الحاكمين، وانحبست الأنفاس كما لو تعلق الأمر بيوم النشور. لكن، وعلى خلاف ما آلات إليه التحركات الشعبية في جل البلدان العربية، فإن «الربيع المغربي» كان مختلفا. قاده اليساريون والثائرون وقطف ثماره الإسلاميون، لكن رأس الدولة هنا قام بدور خاص، حيث لم يتأخر في تقديم العرض الذي كبح جماح الحراك، وحوله إلى موجة إصلاحية سرعان ما أحالت حركة «20 فبراير» إلى موجة احتجاج أسبوعي تراقبها أجهزة الدولة من بعيد، وتقص أجنحتها بتدريج دون أن تتدخل للاصطدام بها. وصول رياح الربيع العربي إلى المغرب، ورغم الدعوات الجادة التي صدرت في بداية سنة 2011 للتظاهر، اعتقد البعض أنه مجرد «مُزحة»، أو خدعة، خاصة عندما قيل في البداية إن تاريخ «الخروج» في المغرب هو 27 فبراير، ثم تبدل الأمر وأصبح التاريخ هو يوم 20. لماذا هذا التغيير؟ «حتى نتجنب أي خلط بين هذه المبادرة وتاريخ تأسيس جبهة البوليساريو»، أجاب شبان ال«20 فبراير». لكن، وكلما أمعن الزمن في دخول نفق شهر فبراير، كان توتر أعصاب الخائفين من خروج الناس للاحتجاج يرتفع، وبدت دعوة هؤلاء الشبان اليافعين، عبر شريطهم البسيط والأنيق، جدا لا هزلا. يساريون وإسلاميون، ملتحون ومتحررات، شيوخ وصغار، وقفوا يومها جميعا وراء لافتة واحدة ورددوا بصوت واحد: «الشعب يريد إسقاط الاستبداد»، و«الشعب يريد دستورا جديدا»، فيما جمع البعض بين ترديد الشعارات ورفع لافتات صغيرة كُتب عليها: «لا للجمع بين السلطة والثروة»، و«الملكية البرلمانية سبيلنا نحو الديمقراطية». هكذا بدت ساحة باب الأحد في قلب العاصمة الرباط صبيحة يوم 20 فبراير 2011، وهكذا كانت أحلام وانتظارات الربيع العربي.
«ثورة» خدمت الملكية
أسبوعان قصيران كانا كافيين كي يقدم الملك جوابه عن التحرك الشعبي غير المسبوق في عهده، حيث أطل على شعبه في خطاب رسمي يوم 9 مارس 2011، مبشرا بنقل بعض السلطات، التي ظل يمارسها الملك في دساتير الحسن الثاني، إلى الحكومة في شخص وزيرها الأول الذي سيُصبح في الدستور الجديد رئيسا للحكومة، وبتعزيز صلاحيات مجلس النواب في التشريع والمبادرة ومراقبة الحكومة، مقابل خفض مكانة الغرفة الثانية. والجملة الأولى التي تلاها الملك محمد السادس في خطاب 9 مارس، قال فيها إنه يخاطب الشعب المغربي «بشأن الشروع في المرحلة الموالية من مسار الجهوية المتقدمة، بما تنطوي عليه من تطوير لنموذجنا الديمقراطي التنموي المتميز، وما تقتضيه من مراجعة دستورية عميقة». مائة وثلاثون يوما، الفاصلة بين 20 فبراير و1 يوليوز 2011، مرت على المغرب مختلفة عن كل الأيام، بين اليوم الأول الذي خرجت فيه أكبر حركة احتجاجية في عهد الملك محمد السادس، واليوم الأخير الذي سجلت فيه أكبر نسبة تصويت منذ اعتلائه العرش، بأكثر من سبعين في المائة؛ 130 يوما كانت حافلة بالصخب والمظاهرات والمناظرات. وهذه الوصفة الملكية التي جاءت في شكل دستور من 180 فصلا، حملت في طياتها جوابا آخر، بعد الجواب الذي قدمه الملك في خطاب 9 مارس المُعلن عن مشروع الإصلاح الدستوري؛ الجواب الجديد الذي كان مهندسو الاستفتاء ينتظرونه على أحر من الجمر، وتبادلوا التهاني والعناق بعد تلقيه، كان هو ما سيُعتبر منذ ذلك اليوم جوابا من الشعب إلى الملك، عنوانه إقبال كبير على التصويت، والتصويت بنعم. أحد العوامل، التي أبقت الطريق مفتوحا أمام الملك ليقود المبادرة في الإصلاح، كان حركة 20 فبراير نفسها، التي جعلت لنفسها سقفا لا يتجاوز المؤسسة الملكية، ويقف عند مطلب الملكية البرلمانية. كما اختارت الحركة أن توجه شعاراتها واحتجاجاتها إلى مؤسسات وشخصيات ورموز، وإن كانت قريبة من المحيط الملكي، إلا أنها كانت أي شيء إلا الملك. وعندما كانت بعض الشعارات تنفلت من رقابة المنظمين، وتمس شخص الملك مباشرة، كانت جل الجهات المنظمة تتبرأ وتنفي. «المؤسسة الملكية نظرت إلى المطالب التي رفعتها حركة 20 فبراير على أنها مشروعة، من قبيل الدعوة إلى إسقاط الفساد والاستبداد والاحتكار والريع... بل إن الملك نفسه كان قد دعا في عدد من خطاباته إلى إصلاح القضاء واعتماد الجهوية الموسعة والحد من الفساد والتجاوزات...»، يقول المتخصص محمد ضريف، مضيفا أن المؤسسة الملكية لم تتعامل مع الحركة بالمنطق الكمي، «أي كم عدد الذين خرجوا في المسيرات، بل تعاملت معها من الناحية الكيفية، أي هل مطالبها مشروعة أم لا، ولا أحد يمكنه الوقوف ضد شعارات إسقاط الفساد».
طارق: 20 فبراير انتهت والاحتجاج باق
وعما إن كانت الحركة قد انتهت أم لا، يجيب السياسي والأكاديمي، حسن طارق، بالقول إن الجواب يختلف «حسب المعنى الذي نعطيه للحركة، فإذا أعطيناها معنى الحركة الاجتماعية والسياسية، وكجزء من الانخراط المغرب في الربيع العربي الذي أفضى إلى خطاب 9 مارس ودستور 2011؛ فإن الحركة انتهت كوظيفة وكجزء من مرحلة سياسية وكعنوان لمرحلة كاملة عاشها المغرب». أما إذا اعتبرت حركة 20 فبراير حركة للاحتجاج المرتبط بمجموعة من الشباب الحامل لرؤية سياسية والمتمسك بهذا الشكل من الانخراط والالتزام، «فيمكن أن نقول إن الحركة مستمرة»، يقول حسن طارق، ليعلن ميله إلى المعنى الأولى الذي يفضي إلى اعتبار الحركة قد انتهت. «ما توافقنا على اعتباره حركة 20 فبراير انتهى، وهذا الاستمرار المادي والرغبة في إعطاء نفس جديد لن يؤدي في اعتقادي إلى انبعاث دينامية جديدة مشابهة لما وقع في 2011». حكم قاس يفسره طارق بالقول إن التاريخ ليس مجرد إرادة أفراد، «بل تحتاج إرادة الأفراد إلى التقاء مع إرادة التاريخ ووجود ديناميات وطنية وإقليمية ودولية معينة». تفسير ينبه حسن طارق إلى كونه لا يعني أن الاحتجاج السياسي انتهى في المغرب، «بل قد يأخذ هذا الاحتجاج أشكالا أخرى قد يتغير نوعها وحجمها حسب المتغيرات التي تقع». دون أن تترك تطورات الواقع المجال للإجابة عن سؤال مصير «الفصيل» المغربي للربيع العربي، أصبح ما ظل يسمى، قبل هبوب رياح الربيع العربي، «فزاعة إسلامية»، ورقة «جوكير» رابحة في يد الملك. وهو ما جعل مشاعر فرح متردد تختلط بخوف من المجهول يسود أركان مقر حزب العدالة والتنمية ليلة الجمعة 25 نونبر 2011. فأول مكتب توصل أتباع عبد الإله بنكيران بنتائجه، كان ضمن دائرة تارودانت الجنوبية، ويقع في إحدى المناطق القروية التي لم تطأها أقدام حزب المصباح من قبل؛ حصد فيه المصباح 127 صوتا من أصل 129، فيما فاز حزب الجرار بالصوتين المتبقيين. تصريحات متحفظة ومترددة كان قادة الحزب يدلون بها أمام ميكروفونات الصحافة الأجنبية والمغربية؛ فيما كانوا يتبادلون التهاني ويشدون على أيدي بعضهم البعض مبشرين بنصر كبير. أخبار الطمأنة والفرحة الأكيدة سوف لن تأتي إلا من قنوات دوزيم والأولى وميدي1 تي في العمومية. عبد الإله بنكيران، الأمين العام، يُعلن فائزا عن مدينة سلا، وبعده سعد الدين العثماني ينتزع مقعدا عن مدينة المحمدية، وعبد العزيز أفتاتي يجدد مقعده في وجدة، وعبد الله بوانو يعود إلى البرلمان من مكناس، وعبد العالي عبد المولى يفوز في سيدي قاسم... وهو ما كان له معنى واحد: المملكة مقبلة على أول حكومة للإسلاميين.
الأخطاء الأولى لحكومة بنكيران
ورغم الرجة والحركية اللتين خلقتهما حكومة عبد الإله بنكيران، فإن توالي مرور الشهور الأولى من عمرها أبان عن بطء في الإنجاز، وتراجعات متوالية عن آجال حددتها الحكومة لنفسها بنفسها من أجل تحقيق عدة إصلاحات. من بين أهم تلك الإصلاحات المؤجلة، تلك المتعلقة بصندوق المقاصة، حيث كانت الحكومة قد أعلنت، في شهورها الأولى، اعتزامها إنهاء الوضع المختل لهذا الصندوق، والإسراع بسحب الدعم من غير مستحقيه، وتوزيعه بشكل مباشر على الفئات الفقيرة، فلم يتحقق من ذلك سوى الرفع من أسعار المحروقات، وبات الإصلاح المنتظر مؤجلا إلى ما بعد 2012. كما بقي تاريخ إجراء الانتخابات المحلية وتجديد مجلس المستشارين عالقا، بل إن خروج أول قانون للمالية في عهد الحكومة الحالية تطلب مفاوضات عسيرة في الكواليس، تسببت في تأخر عرض القانون المالي على البرلمان، من أجل إقناع الشركات الكبرى، التي تحقق أرباحا طائلة، بتمويل السنة الأولى فقط من صندوق التضامن الاجتماعي.
بنكيران: غيرت أفكاري والوقت لا يخيفني
«أنا الوقت ما كايخلعنيش... المغاربة صوتوا علينا لمدة خمس سنوات... ما يجي حد يقولي 100 يوم والحصيلة...»، كانت هذه بعض عبارات رئيس الحكومة الحالي، عبد الإله بنكيران، من منصة الخطابة البرلمانية في إحدى جلساته الشهرية. الرجل يرفض انتقادات المستعجلين، والمطالبين بإجراءات فعلية وملموسة هنا والآن. ورغم إعلانه، في المناسبة نفسها، استعداده للتضحية بشعبيته من أجل اتخاذ قرارات مؤلمة، فإن البعض لم يرَ في ذلك إلا محاولة لإذكاء شعبيته و«بطوليته». «منين تايكون الإنسان غادي يولي رئيس حكومة فالأول، كايشوف الأمور بواحد الطريقة، وتايتخيل أن هادي واحد المسألة إيجابية، اختصار عدد الوزراء لاختصار المصاريف، وعندما تصبح رئيسا للحكومة تصبح لك تقديرات أخرى»، يقول رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، خلاله خرجته التلفزيونية الأخيرة في أعقاب تشكيل حكومته الثانية. وبينما كانت سنة 2012 مرحلة اشتغل فيها رئيس الحكومة وفق أسلوبه وطريقته في التدبير من موقع لم يسبق لأي مغربي أن شغله من قبل، أي رئيس حكومة بصلاحيات واسعة، وضاع من تلك السنة أكثر من خمسة أشهر بفعل غياب قانون مالي وغموض الأفق السياسي؛ فإن مدة لا تقل عن ذلك أضاعتها حكومة عبد الإله بنكيران في العام 2013. هذه المرة لم يكن ذلك لغياب قانون مالي، بل لانعدام وجود أغلبية حكومية حقيقية، ودخول الحكومة في ما سماه الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، سنة من «التقييد»، أي منذ انتخاب حميد شباط أمينا عاما لحزب الاستقلال. لكن ما آلت إليه سنة كاملة من الأزمة السياسية الخانقة، لم يكن في اتجاه مواصلة التطور والتقدم، والحزب الذي ترأس مجموعة الأحزاب الثمانية وراح يحرث الأرض الانتخابية عام 2011 من أجل الفوز وتشكيل أول حكومة في عهد الدستور الجديد؛ صبر أقل من سنتين ليصبح أقوى أحزاب هذه الحكومة دون حاجة إلى رئاستها. التجمع الوطني للأحرار، الحزب الذي احتل المرتبة الثالثة خلف كل من المصباح والميزان، بات يحوز ثماني حقائب وزارية وازنة، أبرزها الوزارة السيادية في الخارجية والتعاون، ووزارة الاقتصاد والمالية. أكثر من ذلك، لم تكتف الحمامة بالتقاط حقائب الحزب الثاني في الترتيب الانتخابي، المنسحب من الأغلبية، حزب الاستقلال، والزيادة عليها؛ بل جمع بين «الحسنين»، ونال وعدا رسميا من جانب تكتل الأغلبية الجديد، بتقديم رئيس فريقه البرلماني، رشيد الطالبي العلمي، مرشحا باسم هذه الأغلبية، لرئاسة مجلس النواب عوض الاستقلالي كريم غلاب، شهر أبريل المقبل. أكثر من ذلك، توسع تحالف الأغلبية الحكومية ليصبح مكونا من خمسة أحزاب، بانضمام كوكبة كبيرة من الوزراء التقنوقراط، وحيازتهم أكثر الوزارات حساسية وأهمية وتحكما في الميزانيات.
خريف عربي
تراجعٌ بخطوات عديدة ظل الفاعل الأساس في المشهد الحزبي المغربي يفسره بالتهديد القادم من الخارج، تماما مثلما وصل إلى الحكومة بفضل «البشائر» القادمة من الخارج. وفرق كبير بين تاريخين غير متباعدين، هما 25 يونيو 2012، و14 غشت 2013. في التاريخ الأول، كان قد أعلن رسميا فوز المرشح الإسلامي محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية في مصر. يومها سبق رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، الملك إلى تهنئة رئيس مصر «الإخواني»، وزعيم حركة التوحيد والإصلاح، محمد الحمداوي، تمكن من الحديث هاتفيا إلى المرشح الأصلي للانتخابات الرئاسية، خيرت الشاطر، وأبلغه تهاني الحركة ومباركتها. أما صبيحة يوم 14 غشت، فموجة حزن جماعي انتابت بيت الإسلاميين المغاربة، ونبرة الأسى اعتلت تعاليقهم ونقاشاتهم حول ما عرفته ساحات الاعتصامات التي كان الإخوان المسلمون ينظمونها في مصر احتجاجا على الانقلاب ضد حكم مرسي واحتجازه منذ بداية شهر يوليوز الماضي. «اللهم إنا مغلوبون فانتصر»، «لا حول ولا قوة إلا بالله»، عبارات من بين أخرى تناقلتها مواقع وصفحات إسلاميي المغرب ليلة توالي أنباء سقوط القتلى والمحروقين والجرحى جراء التدخل المسلح لفض الاعتصامات، ومنهم من قضى الليل متابعا لتطورات الأحداث عبر القنوات الفضائية، تتقدمها قناة «الجزيرة» القطرية، حيث كانت جميع المؤشرات تدل على وجود قرار بالتدخل لفض اعتصامات الإخوان، سرعان ما تم تنفيذه. «ما وقع هو محاولة جدية لكي ننسى الحكومة التي تحدث عنها دستور 2011، حيث الحكومة هي السلطة التنفيذية بكل صلاحياتها واختصاصاتها، ولكي نتذكر القاعدة الأولى للسلطوية؛ حيث كل ما له علاقة بالانتخابات مرادف لغياب الفعالية ولعجز في النجاعة، وكل ما له علاقة بالسياسيين مرادف للسفسطة والكلام الفارغ والبوليميك في الوسائل، وللفشل البين في النتيجة»، يقول حسن طارق تعليقا على ما آلت إليه الأوضاع السياسية، مضيفا أن كل ما يقع هو محاولة لكي ننسى علاقة الحكومة بالبرلمان، حيث الحكومة مسؤولة أساساً أمام مجلس النواب، وشرعيتها انتخابية بالأساس، «ولكي نتذكر الدرس الأول للعقيدة التقنوقراطية؛ حيث الحكومات تستمر بغض النظر عن الأغلبيات وعن البرلمان، وحيث يمكن للبرلمان أن يستمر دونما حاجة إلى الانتخابات، ويمكن للحكومة أن تستمر دونما حاجة إلى برلمان، ويمكن في النهاية للبلاد أن تستمر دونما حاجة إلى كل الضجيج المُسمى: ديمقراطية؛ دونما حاجة إلى الحكومة ولا إلى غيرها، وأن كل ما يقع محاولة لكي ننسى التغيير و20 فبراير والدستور الجديد، حيث السلطة تقترن بالمسؤولية والمحاسبة، ولكي نتذكر الثوابت الراسخة للبلاد، في التحكم في الأحزاب واعتقال الصحافيين وقمع المحتجين واحتقار السياسة...». أما الضفة الإسلامية فلها تفسير آخر لما يقع. القيادي البارز في حزب العدالة والتنمية وذراعه الدعوي، محمد يتيم، وصف ما تشهده المنطقة العربية حاليا بموجة أولى في مسار الثورة العربية، موضحا أن تاريخ الثورات، حسب دراسات غربية، يفيد بأنه «لا تبدأ ثورة كبرى في إنتاج ثمارها إلا بعد ثلاثة عقود». وأضاف يتيم أنه بعد الهزة الكبرى التي تحدثها الثورة، «فإن الأمر يحتاج إلى ردات اهتزازية كي يتم التخلص من بقايا الأنظمة السابقة، وتنجز بالكامل مقتضيات واستحقاقات الفترة الانتقالية». يتيم قال إن التاريخ لا يسير في اتجاه مستقيم، «بل إنه يسير سيرا لولبيا، وذلك يعني أنه يعرف لحظات من التراجع كي ينطلق من جديد نحو الأعلى، لكن رغم هذا التذبذب فإن المسار العام مسار تصاعدي. وذلك يعني أنه لا يمكن الرجوع إلى الوراء حتى وإن بدا أن بعض الأوضاع الناجمة عن التغيير الناتج عن الربيع الديمقراطي قد عرفت انتكاسة حتى عن الأوضاع السابقة على الربيع العربي، فإن ذلك التراجع هو تراجع لحظي تحفزي». وخلص يتيم' في نهاية مقاله المنشور في العدد الأخير من مجلة «الفرقان»، إلى أنه «ينبغي أن ننتظر الموجة الثانية للربيع العربي التي هي قادمة لا محالة. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون».
لولبية التاريخ
من جانبه، قال القيادي في حركة التوحيد والإصلاح ومدير نشر المجلة، امحمد طلابي، إن «الانتصار على الدولة العميقة هو المهمة الأكثر صعوبة في الربيع الديمقراطي للعبور بأمتنا المجيدة نحو الديمقراطية والتنمية والعزة والعيش الكريم». وذهب طلابي إلى أن «الراجح أن انتصار الثورة على قوى الثورة المضادة يقارب المائة في المائة، لعوامل موضوعية وذاتية». عوامل قال طلابي إن من بينها دروس التاريخ القديم «في التدافع بين قوى الثورة والثورة المضادة. فالإسلام ثورة تاريخية كبرى، وحلف قريش واليهود كان ثورة مضادة، استطاع الانتصار في معركة أحد، لكن الخاتمة كانت انتصار الإسلام». كما سرد طلابي مثال الثورة الفرنسية باعتبارها أول ربيع ديمقراطي في العصر الحديث، والتي انتهت بانتصارها رغم الارتدادات التي عرفتها. قيادي آخر في حركة التوحيد والإصلاح وأحد أعضاء حزب العدالة والتنمية، وهو مصطفى بنان، ذكر بكونه كان قد اعتبر المغرب ليس استثناء عندما انطلق الربيع العربي، «فقد كان فيه استبداد وفساد رغم اختلافه عن غيره». وذهب بنان إلى أن الشيء نفسه ينطبق على مرحلة «الثورات المضادة»، وقال إن «تهديدات الثورة المضادة حاضرة عندنا، وعرابوها لن يعدموا المبررات، فالحكومة المنبثقة عن انتخابات نونبر 2011 قد تكون لها أخطاء وعليها مآخذ، وإنجازاتها في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية لا ترقى إلى مستوى الانتظارات الكبيرة، ومراكز القوى المضادة للإصلاح تستعيد حيويتها ونفوذها وتكتسب أنصارا جددا، ولعلها تتأهب للانتقال من مجرد التشويش والعرقلة الخفية إلى ما هو أنكى وأجلى». ثم سرعان ما عاد مصطفى بنان ليؤكد ما «بشر» به يتيم من انتصار للثورة رغم الارتدادات، حيث قال إن «ثورة الربيع العربي مستمرة، وأفقها مفتوح على المستقبل، وإن اتخذت مسارا متعرجا أو اعترتها فترات جزر، وواجهتها تحديات وصعاب وتطلبت تضحيات». وخص بنان المغرب بالحديث، معتبرا أن «أفق الإصلاح في المغرب مفتوح لحاجة البلاد والعباد إليه، وهو يحتاج إلى وقت وصبر وجهود متضافرة مضنية، غير أن الظروف المضادة تقتضي الإقرار بأن سقف الإصلاحات بات أكثر انحدارا، وينبغي العمل على ألا ينحدر أكثر».
انتظار فرج يأتي من السماء
«إذا كان من المؤكد أن دينامية فبراير المغربي قد استندت في صيرورتها إلى المفاجأة الاستراتيجية لحدث الربيع العربي في موجته الأولى، فإنه من غير الممكن، في لحظة تحليل الحدث، إقصاء عناصر البيئة الوطنية المُستقبلة، التي سهلت ولادة الهَبّة المغربية، ليس كحدث عابر ضمن يوميات السياسة المغربية، ولا كمجرّد صدى بعيد للمحيط الإقليمي، ولكن كعنوان على تحولات سوسيولوجية نافذة، مست علائق الشباب بالسياسة ووسائل التأطير وطرائق الاحتجاج»، يقول حسن طارق، موضحا أن المقصود من هذا التذكير السريع هو «المجازفة بالقول إن دينامية 20 فبراير، في تمظهراتها الحركية، قد تؤول إلى التحلل أو حتى الموت، لكن هذا لا يعني بالضرورة موت فكرة الاحتجاج السياسي بدعوات مواطنة من أفراد، تيسر لهم وسائط التواصل الجديدة تأسيس شبكات وتحالفات، وبناء قضايا مهيكلة للرأي العام». المحلل والسياسي الاتحادي المعارض قال إن مصر أصبحت فجأة ذريعة لكل الصراعات الداخلية والمواقف السياسية والإعلامية، «وأصبح المعجم المصري استعارة ناجحة لكل الجدل المغربي المغربي... نصف الحقل السياسي والإعلامي المغربي تبنى قاموس المحتفلين: حركة تمرد، الثورة الثانية ما بعد 30 يونيو، استعادة مصر، خارطة الطريق، الجيش الوطني، جبهة الإنقاذ... فيما فضل النصف الآخر الاحتفاظ بما تبقى من المعجم المصري الغاضب: الانقلاب، الفلول، ثورة البلطجية، بقايا النظام، العسكر، الشرعية...». أستاذ آخر للعلوم السياسية، لكنه قيادي في حزب العدالة والتنمية، عبد العالي حامي الدين، يقر بكون المغرب نجح في كسب معركة الاستقرار في انتظار كسب معركة الإصلاح الحقيقي الذي يحلم به المواطنون، لكنه يصر على أن سنة 2013، وإن كانت سنة الآمال المجهضة، فإنها كشفت أيضا حجم الرهانات الجيو-استراتيجية على المنطقة، إقليميا ودوليا، «كما كشفت نفاق العديد من الأنظمة الغربية في ما يتعلق بالمسألة الديمقراطية، في مقابل مفاجأة الربيع الديمقراطي الذي لم يُمهِل العديد من التيارات السياسية لكي تحسن قراءة طبيعة المرحلة. وهو ما يعني أن هناك الكثير من العمل ينبغي القيام به في انتظار فرجٍ يأتي من السماء».