يبدو أن فرنسا تلفعت برداء الحكمة والعقلانية، بصدور قرار مجلس الدولة الفرنسي القاضي بتعليقه حظر لباس البحر "البوركيني"، تفاديا لصب الزيت في نار التطرف، خاصة بعدما غضب المنصفون ودعاة حقوق الإنسان، ولو صدر هذا القرار مثلما صدر قرار منع الحجاب في المدارس سابقا، لتغذى منه بعبع الإرهاب بنهم، إرهاب لم يخلف ضحايا في "نيس" فحسب في 14 يوليوز، لكن جعل المسلمين ينجرفون عبر موج من الهلع ورحلة كوابيس تتطاير في النوم واليقظة كجثث جريحة نجت من مجزرة "نيس" المأساوية بشكل يزعج هجعة نومهم الهادئ، رحلة خوف ستتطلب جهدا كبيرا لإثبات ذاك الفارق الكبير بين الإسلام والإرهاب الذي لا دين له. قرار المنع كان سيكون ضربة صاعقة لمبادئ حقوق الإنسان التي لطالما تشدقت بها فرنسا ومنها الحرية الشخصية، ولمبادئ العلمانية التي تؤكد على خيار الإنسان في الاعتقاد والتصرف. لقد بدت "سيام" المرأة الجالسة على شاطئ "نيس"، بلباسها البوركيني الحاجب كقنبلة موقوتة تحدق بفرنسا وبقيم الجمهورية، لكنه لباس بحري عرّى الذهنية الفرنسية أمام العالم وكشف عن زيف خطاباتها، فرنسا التي نهجت "السياسة الانتقائية" تجاه المهاجرين العرب، والتي طرحها ساركوزي خلال حملته الانتخابية، وترجمها بريس هورتفو، وزير "الهجرة والهوية الوطنية"، عبر قانون الهجرة الجديد الذي تولى إعداده، ففرنسا لم تعد بحاجة إلى كل المهاجرين بعد ما بنت الميترو والطرقات على أكتافهم، بل بحاجة إلى مهاجرين منتقين بمزاجها الفرنسي "المتعصب". فلباس "البوركيني" ليس لباسا إسلاميا، وإنما لكل السيدات، من مختلف الأديان والأعراق، اللائي لا يردن التعري على الشواطئ العامة أو الخاصة، ولا يرغبن للتعرض للشمس، بسبب علاجهن من مرض السرطان أو السترة، وأشهر مقدمة لبرامج الطبخ في بريطانيا وأمريكا، السيدة ناي جيلا لوسون، كانت من أشهر السيدات اللائي ارتدينه لأسباب شخصية، وهي بالمناسبة من أصول يهودية، ووالدها كان وزيرا للخزانة البريطانية. سحب وغيوم جدل، كانت تعد برعد أعاصير قد تتشكل على حواف سماء فرنسا، قرار موغل في عنصريته وتعصبه، والذي كان بلجيكيا وفرنسيا أكثر منه إيطاليا وكنديا يدعي محاربته "للرؤية الانعزالية في المجتمع" ولكل تشويش على فكرة الوحدة الوطنية في المجتمع الفرنسي، مع أن منع البوركيني والحجاب وليس "البرقع" أو "النقاب" في الأماكن العامة بالنسبة إليّ لا يختلف عن فرض الحجاب على امرأة "متبرجة" أو طفلة قاصر، فكلاهما تضييق على الحرية الشخصية، لكن المستفيدة من هذا الجدل الساخن، هي المصممة الاسترالية التي ازدادت نسبة المبيعات عندها لهذا اللباس "الساتر"، والخاسر الأكبر هي فرنسا التي بدت كمن هوت من فلك تمخر عباب موج علماني مرتبك ومشوش، ملتفة بغلائل الضباب حسب الصورة التي رسمها لنا الروائي تولستوي، غير متصالحة مع قيم الجمهورية الفرنسية العلمانية التي لطالما تباهت بها أمام العالم.