يحتدم الصراع السياسي في قلب الحملة الانتخابية قبل وقتها القانوني، فحرارة المواجهات والخصومات والصراعات السياسية تلفح وجوه المتتبعين حتى قبل تاريخ الانتخابات التشريعية المزمع تنظيمها في 7 أكتوبر المقبل. والوجه الأبرز لهذه المواجهة شبه اليومية بين حزبي الأصالة والمعاصرة والعدالة والتنمية، والتي غدتها الخرجات المتتالية لوزارة الداخلية، يتمثل في موقفين؛ قضية خدام الدولة التي اتُّهم البيجيدي بالوقوف وراءها لأهداف «انتخابية»، وقضية مصرع عضو البيجيدي بأرفود وابنه، والتي اتهمت فيها وزارة حصاد، مرة أخرى، البيجيدي، بالركوب عليها لأهداف انتخابية. قيادات في البيجيدي، تؤمن بأنه كلما اقترب موعد الانتخابات أصبحت المعركة شرسة وشاملة. فمن الناحية القانونية، يتوقع أن تكون للتعديلات التي أجريت على القوانين الانتخابية، خاصة خفض العتبة من 6 في المائة إلى 3 في المائة، نتائج سلبية على البيجيدي، وسياسيا من خلال استثمار تصريحات بنكيران وقياديين آخرين لإقحام الملكية في المعركة ضد رئيس الحكومة، وإعلاميا من خلال حملة مُنسّقة لا تُفلت تصريحا أو موقفا أو واقعة، مهما كانت طبيعتها، دون التشكيك في نوايا الحزب وأهدافه، وماليا واقتصاديا من خلال الخطوات التي كانت وراءها مؤسسات رسمية أو هيئات المال والأعمال، استهدفت الحزب من خلال التشكيك في الحصيلة الاقتصادية والاجتماعية للحكومة. المواجهة استعرت أكثر بعد الخطاب الملكي الأخير لعيد العرش، الذي أكد وجود غضبة ملكية فعلية على بعض تصريحات رئيس الحكومة، ويبدو أنه الجبهة المناهضة لبنكيران وحزبه وجدت فيه «دعما معنويا كبيرا لها، فبعدما كان قادة حزب الأصالة والمعاصرة مترددين في الحديث عن فوز انتخابي يوم 7 أكتوبر المقبل، وبينهم إلياس العماري، الأمين العام للحزب، الذي وُجه إليه سؤال على القناة الأولى نهاية يوليوز المنصرم، فحواه: «هل أنت مستعد لتولي رئاسة الحكومة؟»، فأجاب: «إذا قلت نعم غادي نوحل، وإذا قلت لا غادي نوحل. رئاسة الحكومة تعني التزامات». هذا الخطاب تغير تماما، وبدأت قيادة البام تتحدث من الآن بلغة الفائز «حصيلة بنكيران هي التي ستجعلنا نفوز في الانتخابات»، يقول إلياس العماري في آخر خروج له. فما هي خلفيات تلك الضربات مجتمعة؟ كيف يواجهها «البيجيدي»؟ وهل تحقق أهدافها كما يسعى إلى ذلك قادة «البام» في تعديل مزاج الرأي العام تجاه «البيجيدي» وإلحاق الهزيمة به، أم إن حزب العدالة والتنمية سيستمر لولاية حكومية أخرى؟ ضربات تلو أخرى يقتنص خصوم الحزب الإسلامي كل الفرص لتحجيم الحزب وإضعافه قبل الانتخابات التشريعية المقبلة. منذ بدء إعداد القوانين الانتخابية، ظهر أن انتخابات 7 شتنبر لن تكون كسابقاتها في التاريخ المغربي، بل ستكون «استحقاقا صعبا» جرى التفكير علنا من طرف قوى سياسية حزبية في الدفع نحو تأجيله أكثر من مرة، وذلك إلى حين إضعاف حزب العدالة والتنمية وزعيمه عبد الإله بنكيران، لكن دون جدوى. ثمة قناعة شائعة لدى الكثيرين بأن هناك جبهتين تتصارعان لا غير، وتعولان على محطة 7 أكتوبر لتوجيه الضربة القاضية إلى إحداهما. تختلف التوصيفات التي تطلق على الجبهتين حسب الموقع والرهانات؛ فمن وجهة نظر «البام» والمقربين منه، فالصراع قائم بين جبهة حداثية تضم «البام» والاتحاد الاشتراكي، مسنودة بقوى داخل مربع الحكم والسلطة، وجبهة تقليدية/أصولية تتمثل في حزب العدالة والتنمية أساسا. أما من وجهة نظر حزب العدالة والتنمية والمقربين منه، فالصراع قائم حاليا بين جبهتين؛ جبهة الديمقراطيين، وتضم «البيجيدي» وحزب التقدم والاشتراكية وحزب الاستقلال، إضافة إلى قوى مدنية وإعلامية وتجارية، في مواجهة جبهة «التحكم» التي تتمثل حزبيا في الأصالة والمعاصرة، وقوى نافذة تمتد إلى داخل مربع الحكم، وتنتشر في أوساط الإعلام والاقتصاد، والنخب التقليدية التي تضررت مصالحها المالية أو التجارية من وصول العدالة والتنمية إلى الحكومة سنة 2011. محمد مدني، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط، أدرج كل الضربات والضربات المضادة التي ميّزت حالة الصراع المتوتر في الآونة الأخيرة ضمن «التسخينات الانتخابية»، وقال ل«أخبار اليوم»: «هناك حملة انتخابية مفتوحة الآن، لا ينقصها سوى نزول القيادات الحزبية إلى الميدان». وفي نظر مدني، فإن «حرارة المعركة الانتخابية ستبدأ في الارتفاع تدريجيا حتى يوم الاقتراع»، وطوال تلك الفترة الفاصلة عن يوم 7 أكتوبر «سيستعمل كل طرف كل ما بحوزته من وسائل لإلحاق الهزيمة بالخصم»، بما «في ذلك الوسائل غير المشروعة، كالكذب والاختلاق». أما من وجهة نظر أحمد البوز، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس، فإن كل الضربات التي توجه إلى حزب العدالة والتنمية، وإن كانت تفسّر ب«الصراع الانتخابي المفتوح»، فإن هناك معطى آخر بات معلنا ومكشوفا يتمثل في «وجود جزء من الطبقة السياسية لا يريد استمرار حزب العدالة والتنمية في رئاسة الحكومة المقبلة، ويسعى بكل جهده إلى الحؤول دون حصول ذلك، وبالأساس إزاحة أمينه العام، عبد الإله بنكيران». المعطى الأخير هو ما يفسّر، في نظر البوز، «حدة الضربات في هذا الصراع المتأجج». تختلف الضربات من جهة إلى أخرى. عبد الحفيظ اليونسي، أستاذ القانون العام في جامعة الحسن الثاني، تحدث عن ثلاثة مستويات من استهداف حزب العدالة والتنمية. المستوى الأولى مرتبط بالسياق الجاري، أي اللحظة الانتخابية، وبما أن القوانين هي نتاج لموازين القوى، فإن البعض قد رأى في «الشرط القانوني آلية للتحكم القبلي في النتائج». من التقنيات التي استعملت للتحكم في نتائج حزب العدالة والتنمية تخفيض العتبة من 6 إلى 3 في المائة، وهي تقنية تسعى من ورائها وزارة الداخلية إلى الرفع من حظوظ الأحزاب الصغرى في الحصول على مقاعد برلمانية، علما أنها تقنية ستتضرر منها الأحزاب الكبيرة، وخاصة حزب العدالة والتنمية. أما التقنية الثانية التي استعملت لحد الآن فهي التضييق على مناضلي الحزب في الإسهام في حملة التسجيل في اللوائح الانتخابية، حيث اشتُرط لأول مرة أن يكون كل تسجيل إلكتروني من بريد إلكتروني واحد، وبذلك حدّت من حملات شبيبة حزب العدالة والتنمية في تسجيل المواطنين. النتيجة أن عدد طلبات التسجيل كانت دون المتوقع بكثير، إذ لم تتعد 500 ألف طلب، وبعد تدقيقها قد تنخفض إلى أقل من ذلك بكثير، ما دفع البعض إلى الحديث عن عزوف انتخابي متوقع. المستوى الثاني، في نظر اليونسي، يتمثل في استهداف ذي طبيعة سياسية يرمي إلى عزل العدالة والتنمية عن باقي الأحزاب والقوى السياسية الأخرى، من خلال تصوير المعركة الحالية على أنها ضد حزب محافظ ومنغلق ويهدد الحريات وقيم الانفتاح والاعتدال، ومن خلال التركيز على الاحتجاجات التي تخرج من هنا أو هناك، والقول بأن جميع القوى (أحزاب، نقابات، جمعيات، نساء…) ضد حزب «البيجيدي». بل وصل هذا المسعى إلى «تخويف الفاعل الاقتصادي، ودفعه إلى الاحتجاج بدوره ضد إجراءات حكومية معينة»، كما فعل بنك المغرب واتحاد مقاولات المغرب وجمعية مهنيي الأبناك بواسطة مذكرتهم الشهيرة الموجهة إلى رئيس الحكومة. المستوى الثالث للصراع يظهر على الساحة الإعلامية. في نظر اليونسي، فإن ضربات تُوجّه إلى حزب العدالة والتنمية من قبل وسائل تقتنص أي تصريح لأحد قادة الحزب، أو موقف، أو حتى «تدوينة» على مواقع التواصل الاجتماعي، أو حدث اعتقال أو غير ذلك، لكي تتم «فبركة قصص خيالية» ضد الحزب. اليونسي أوضح: «من المضحك أن تتحول تدوينات بعض الشباب المتعاطف مع الحزب إلى مواد إخبارية رئيسة في الصفحات الأولى لبعض الجرائد»، مؤكدا أن «هناك استثمارا مكثفا لمثل هذه الانزلاقات الأخلاقية التي قد تقع لكن يتم النفخ فيها وتضخيمها بشكل مبالغ فيه». بين التشويه والاستدراج في هذا الجو المتوتر، اندفعت وسائل الإعلام (مكتوبة، إلكترونية، فايسبوك…)، حسب قناعات قيادات في البيجيدي، نحو التلاعب بالتصريحات والمواقف والوقائع بدون أدنى ضوابط مهنية أو أخلاقية، إما بهدف دعشنة الحزب وتشويه صورته أمام الرأي العام، أو دفعه إلى الصدام مع المؤسسات. اشتغلت هذه الجهات المحسوبة على ما بات يسمى جبهة «التحكم» على محاولة دعشنة الحزب. على سبيل المثال، اندفعت تلك الجهات إلى اختلاق «تدوينة مصوّرة» على الفايسبوك زعموا أنها منسوخة من صفحة محمد يتيم، القيادي البارز في حزب العدالة والتنمية، تتضمن تحريضا على القتل، وتستشهد بالآية القرآنية: «واقتلوهم حيث ثقفتموهم». التدوينة المصورة نشرها شخص يدعى «ر.ش»، قبل أسبوع فقط، مشفوعة بعبارة قال فيها: «عيطو لبسيج»، في إشارة إلى المكتب المركزي للتحقيقات القضائية. وبمجرد أن نشر المدعو «ر.ش» التدوينة المصورة التي يزعم أنها منسوخة عن صفحة محمد يتيم، حتى تلقفها النشطاء المناهضون لحزب العدالة والتنمية على الفايسبوك، ليتم نشرها على أوسع نطاق من قبل خصوم الحزب الذين وجدوها فرصة ثمينة لتوجيه سهام النقد والغضب إلى يتيم وحزبه. يتيم، الذي كان في سفر نحو مناطق الجنوب البعيدة، بمناسبة عطلة نهاية الأسبوع، سرعان ما نفى بشدة أن تكون التدوينة صحيحة نهائيا، مؤكدا أنها «تدوينة مفبركة»، وقال: «لا توجد هذه التدوينة على صفحتي». وأضاف يتيم: «أؤكد أنني سأقوم بالإجراءات القانونية من أجل متابعة المفتري». وبعد التوضيح الذي نشره يتيم على صفحته، تبين للمدعو «ر.ش» أن التدوينة المنسوبة إلى يتيم كاذبة، ما دعاه إلى حذفها وإعلان الاعتذار. ما حدث مع يتيم وقع قبل ذلك مع البرلمانية آمنة ماء العينين، التي أعلنت تضامنها مع القيادي الشبابي عمر الصنهاجي، ما جرّ عليها متاعب، أبرزها الخطوة التي قام بها محامٍ ينتمي إلى هيئة تطوان محسوب على حزب الأصالة والمعاصرة ومقرب من أمينه العام، إلياس العماري، حيث رفع دعوى قضائية ضدها بتهمة الإشادة بالإرهاب، لأنها أعلنت تضامنها مع الصنهاجي بعد التحقيق معه من قبل ضباط المكتب المركزي للتحقيقات القضائية. كان الصنهاجي نفسه قد تعرض لحملة من قبل خصوم البيجيدي، بعد دعوى قضائية ضده من قبل الجهة نفسها التي قامت باستخراج تدوينة قديمة نشرها على الفايسبوك من تحت الأنقاض، ونفضت عنها الغبار، إذ تعود إلى سياق خاص في سنة 2014، واعتبرها المحامي المذكور، في شكاية وضعها لدى محكمة الاستئناف بتطوان، أنها تتضمن تحريضا على القتل والإرهاب. سليمان العمراني، نائب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، قال ل«أخبار اليوم» إن خصوم حزب العدالة والتنمية «يسعون إلى إرباك حزبنا، واستدراجه، وإلهائه بمعارك فارغة»، وأضاف: «نحن نعرف أنه من هنا حتى انتخابات 7 أكتوبر، سيحاولون فبركة ملفات، وتجييش جزء من الإعلام ضدنا، وربما بطريقة غير مسبوقة، لكنهم لن يفلحوا»، مؤكدا أن الهدف هو «أولا، التشويش على حزب العدالة والتنمية وصورته، وثانيا، صرف نظر المواطنين عن النقاش الحقيقي في هذه المرحلة، أي مناقشة الحصيلة الحكومية بما لها وما عليها، وثالثا، صرف اهتمام المواطنين عن المعارك الحقيقية للوطن»، وختم بالقول: «لن ينتصروا على حزبنا إلا بالمعقول». لكن، لم تقتصر محاولة الربط بين ما ينشر على الفايسبوك وحزب العدالة والتنمية على التدوينة المصورة التي نُسبت إلى محمد يتيم، بل حاولت جهات، حسب ما يزعمه حزب العدالة والتنمية، بالربط بينه وبين فيديو «مزوار والهمّةّ» في ناد ليلي بقطر، كما تمت محاولة الربط بينه وبين ملف «خدام الدولة» الذي أثار غضبا عارما وسط الرأي العام. في كلا الملفين، كان «هناك سعي واستدراج لإحداث الوقيعة بين حزبنا والمؤسسات الدستورية، ومنها المؤسسة الملكية»، يقول خالد الرحموني، عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية. الرحموني أضاف أن خطة استدراج وإرباك الحزب من قبل خصومه «ليست سوى رد فعل واهن ضد الجبهة المناهضة للتحكم التي باتت تتقوى أكثر بعد التحاق حزب الاستقلال بها، والتحاق رموز وطنية وديمقراطية مستقلة كذلك»، مؤكدا أن «الأساليب المستعملة لحد الآن غير قادرة على تغيير المزاج العام للناخبين في الوقت الميّت، ولن تزيد سوى من قوة جبهة الديمقراطية، وعلى رأسها حزب العدالة والتنمية». وقد انتبهت الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية إلى عملية الاستدراج تلك، حيث استنكرت، من خلال بيان مؤرخ في 2 غشت 2016، ما «يتم تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي من مس واستهداف للحياة الخاصة لشخصيات عمومية، ومحاولات حثيثة لإقحام الحزب في تسريبات لا صلة له بها من قريب أو من بعيد، وتوظيفها سياسيا ضده»، وأضافت في بيان رسمي أن الأمانة العامة «تعتبر استهداف الحياة الخاصة للشخصيات العمومية ولعموم الناس مخالفة شرعية وقانونية وأخلاقية»، كما نبّهت أعضاءها والرأي العام إلى أن «مواقف الحزب وتصوراته تعبر عنها بلاغاته وأمينه العام، وما عداهما فهو لا يلزم إلا أصحابه، ولا يتحمل الحزب أي مسؤولية عنها». أوقف بيان الأمانة العامة لعبة الحديث باسم الحزب، سواء بين أعضائه، الذين أدركوا الغايات الكامنة وراء إثارة ملفات حساسة مسّت المحيط الملكي (مستشارون، عسكريون، سفراء…)، أو المتعاطفين معه خصوصا الذين شكلوا صفحات على الفايسبوك، مثل صفحة «فرسان العدالة والتنمية»، الذين وعوا بسرعة أن هناك جهة أو جهات تريد دفع الحزب إلى خوض معارك أكبر منه، أو ليست من أولوياته حاليا، أو خارج إطار تفكيره السياسي أصلا.