بين الحين والآخر أنقل للقراء جزءا من دردشات وحوارات تجمع كاتب هذه السطور بمسؤولين كبار أو مواطنين عاديين أجد أن ما يقولونه سراً مفيد، وقد يعبر عن حقائق ووقائع لا تقال عادة أمام الكاميرات والميكروفونات، إما لأن مواقع المتكلمين حساسة، وإما لأن الخوف مازال مسيطرا على بعضهم، وإما لأن واجب التحفظ يعقد ألسنتهم... مؤخراً التقيت مسؤولا كبيرا في الإدارة له موقع حساس في وزارة مؤثرة، فدار هذا الحوار الذي أجد أنه مفيد، وقد يعبر عن جزء من الرأي يستحق أن يُسمع في وسط الجدل القائم حول تقييم عمل رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران وفريقه... إليكم نص الحوار كما دار بدون رتوش تقريبا... سألت المسؤول عن تداعيات الزيادات في أسعار الكثير من المواد الاستراتيجية في القانون المالي الجديد على السلم الاجتماعي، وما إذا كانت الإدارة واعية بخطورة حل كل مشاكل المغرب عبر قناة واحدة هي جيوب المواطنين، خاصة الطبقات الوسطى، وقلت: «هل كان المخزن ينتظر مجيء بنكيران ليتخذ أصعب القرارات التي لم تتخذها الحكومات السابقة.. أن يزيد في أسعار المحروقات، ويزيد في أسعار الكهرباء، ويزيد في أسعار تذاكر الطائرات، ويزيد في الضريبة على السيارات فوق 600 ألف درهم، ويزيد في سن التقاعد، ويزيد في نسبة مساهمات الموظفين والأجراء في صناديق التقاعد، حتى أصبح بعض الظرفاء يطلقون على بنكيران اسم ابن زيدان لكثرة قرارات الزيادة التي وقعها طيلة سنتين؟»... ضحك صاحبنا من عبارة ابن زيدان، وقال: «لدي عدة ملاحظات على السيد بنكيران وفريقه، وعلى قلة تجربته، وضعف جانب التدبير في معالجته للملفات، وعلى قلة المجهودات التي يبذلها في دراسة ما يوضع أمامه من ورق، وعلى ضعف ديوانه والفريق المحيط به، حيث يفضل الثقة على الكفاءة، ومن يعرفهم على من لا يعرفهم... كل هذا صحيح. لكن يحب أن نعترف بأن بنكيران تصرف كرجل دولة إزاء الملفات الكبرى، والقرارات الصعبة التي وضعت أمامه، وأن أحدا ممن سبقوه من الوزراء الأولين لم يكن قادرا على اتخاذ قرارات مؤلمة لشعبيته، ومفيدة لصحة اقتصاد الدولة. خذ الزيادة في أسعار المحروقات.. لقد نبهه أحد أطر الوزارة إلى أن هذا القرار صعب، وقد يؤثر على شعبية الحزب وأسهمه في الشارع، فرد عليه بنكيران بسرعة ودون تردد: «إذا كانت مصلحة البلاد تمر عبر ضرب شعبية الحزب لهلا يرد بيها هاذ الشعبية.. توكلوا على الله». قرار الزيادة في أسعار المحروقات، ثم قرار المقايسة وفرا المليارات من صندوق المقاصة الذي كان سيصل إلى 60 مليار درهم، بعد أن وصل إلى 54 مليار درهم في 2012، وهذا ما كان سيعمق العجز في الميزانية، ويعرض البلاد للإفلاس وتدخل المؤسسات المالية الدولية في سيادة القرار الوطني.. إصلاح نظام التقاعد إحدى القنابل الموقوتة التي تهدد استقرار البلاد ومعاشات مليون موظف وملايين المأجورين، وهو إصلاح يمر حتما عبر الزيادة في سن التقاعد، وزيادة نسبة مساهمة الدولة والموظفين في المساهمات الشهرية، وتخفيض المعاشات حتى تستمر الصناديق واقفة على رجلها... هذا قرار ليس سهلا، وسيتجرعه الناس، وخاصة المتضررين منه، مثلما يتجرع المريض الدواء يحسبه مرا لكنه هو الطريق للعلاج. الزيادة في الضريبة على السيارات الفارهة، ما هو المشكل؟ نحن بلاد تستورد السيارات ولا تصنعها، وأنت تقول إن هذه الضريبة ستبطئ حركة بيع السيارات «دولوكس».. لتبطئها، لا مشكل، هذه سيارات تخرج المليارات بالعملة الصعبة إلى الخارج، هذا أولا، ثانيا، هذه سيارات تأكل كميات كبيرة من المحروقات المدعمة، فإذا اشترى مواطن سيارة بمليون درهم لماذا لا يعطي للدولة 300 ألف درهم؟ يجب أن يعرف أنه سيربح في 3 سنوات أكثر من 300 ألف درهم عن طريق الدعم الذي سيأكله خزان المحروقات في سيارته، هذه هي السياسة الاجتماعية، وخاصة في أوقات الشدة... الزيادة في أسعار الكهرباء قادمة لأن ميزانية مكتب علي الفاسي الفهري مثقوبة، وكل سنة تصبح الوضعية أسوأ، يجب أن يعرف المواطن أنه يشتري الكهرباء والماء مدعوما، أي بأقل من ثمنه، لا بأس إذا طالبت الدولة الأغنياء والطبقة الوسطى التي لها إمكانيات، بالمساهمة ب300 إلى 400 درهم زيادة في الفاتورة كل شهر»... أوقفته وقلت: «هذا كلام سيدخل السرور على قلب بنكيران، ولو سمعه منك لنادى عليك لديوانه أو للأمانة العامة للحزب لتقنع المشككين في صواب اختياراته»... رد علي: «هذا كلام أنا مقتنع به، ولا أجامل بنكيران ولا أقسامه قناعاته الإيديولوجية، لكن أرى أنه يتخذ قرارات الإصلاحات العميقة التي تحتاجها الدولة، وهو قادر بمهاراته في التواصل مع رجل وامرأة الشارع على إقناع الناس بأن هذا هو الحل، رغم أنه مؤلم، فلو تم تخييرك بين انهيار نظام التقاعد وعدم حصولك على شيء بعد أن تتقاعد وزيادة عمل سنتين أو ثلاث، وتخفيض 10 أو 15 في المائة من المعاش.. هل هذا أفضل أم لا؟». قلت له: «أتفق مع ما تقوله، لكن الناس تنتظر من بنكيران أخذا وعطاء، زيادة هنا لكن إصلاحا هناك يعود بالنفع على جيوب الأسر وخاصة الفقيرة والمتوسطة. الذي سيتضرر أكثر من السياسة «الليبرالية» هذه هو الطبقات الوسطى، مثلا أسرة دخلها 4000 درهم في الشهر قد تقبل زيادة 150 درهما في الكهرباء، ودرهمين في المحروقات، و10 دراهم في البوطاكاز، وقد تقبل أن تقتطع من أجرتها 200 درهم أخرى للتقاعد، لكن يجب أن توفر لها تعليما جيدا لأبنائها يدفعها إلى سحبهم من المدرسة الخصوصية التي تأكل 1500 درهم من أجرتها الشهرية، والدفع بهم إلى المدرسة العمومية وهي متأكدة أنها توفر جودة لا تقل عن المدرسة الخصوصية، عندها ستصفق لإصلاحات بنكيران وستربح نهاية كل شهر». أجاب صاحبنا: «لكي تعطي الحكومة هدايا للناس يجب أن تكون لها الإمكانيات، والإصلاحات الصعبة هذه ستوفر موارد لبنكيران من الميزانية، عندها يمكن أن يعطي الناس، وخاصة البسطاء، شيئا، أما إذا ظل مفلسا فلن يتمكن من إعطاء شيء. المغاربة اليوم لا يطلبون هدايا مادية بالدرجة الأولى، يطلبون هدايا معنوية لا تكلف الكثير، مثل الأمن والاستقرار ورد الاعتبار، وحفظ الكرامة عندما يقفون على أبواب الإدارة، والعدالة عندما يقفون أمام القضاء، إذا أنجز بنكيران 40 في المائة من وعوده في هذا الباب سيرجعه الناخبون أقوى غدا، وبيننا الأيام»...