أقصر فيلم تركي، ليلة القبض على الانقلاب، نهاية زمن العسكر في السياسة، «الفايس تايم» ينقذ تركيا من مسلسل دموي، الشعب ينقذ الزعيم… كلها عناوين صالحة للقبض على جزء من حدث كبير، حدث شد انتباه العالم ليلة الجمعة-السبت عندما نزلت دبابات الجيش التركي إلى اسطنبول وأنقرة وأزمير وأنطاليا وغاتي عنتاب… معلنة انقلابا كامل الأركان، أعقبه بيان تعليق العمل بالدستور، والإطاحة بالرئيس المنتخب، وإعلان الحكومة الشرعية مؤسسة خارج اللعبة، وفرض حالة الطوارئ… ولأن قائد الجيش لم يكن ضمن المخطط الانقلابي، فقد جرى اعتقاله، وتشكيل مجلس حكم عسكري أطلقوا عليه تحببا اسم «مجلس السلام». لم يدم هذا الفيلم المرعب سوى ساعتين قتل فيها أكثر من 260 مواطنا من الشرطة والمدنيين، ثم ظهر الزعيم التركي أردوغان على «الفايس تايم» يدعو الشعب التركي إلى النزول إلى الشارع، وتحدي قرار حظر التجول الذي فرضه الضباط المتمردون، واعتقال الانقلابيين، وإعطاء درس للعالم أن التركي لا يقبل عودة زمن الانقلابات، وأن سياسته تحررت من وصاية العسكر وإلى الأبد. ما هي إلا لحظات حتى هب الرجال والنساء والشباب والشيوخ إلى الشارع رغم أن الوقت متأخر، والرصاص يلعلع في المدن، والطيران يقصف الأحياء من السماء، والتلفزة الرسمية تبث خطابات الانقلابيين، والعالم وقواه الكبرى تتفرج دون أن تدين الانقلاب، ودون أن تدعم الحكومة المنتخبة. يقول الإنجليز إن الصورة أبلغ من ألف كلمة، وهذا ما رآه العالم نقلا حيا من شوارع اسطنبول وأنقرة، حيث وقف شاب عاري الصدر أمام دبابة مانعا إياها من الحركة، ومانعا السلاح من اغتصاب السلطة، والرصاص من انتهاك حرمة الاقتراع، والخوذة من اغتصاب الشرعية. ما هي إلا ساعات حتى حسم الشعب المعركة، ووضع نهاية سعيدة لفيلم مرعب. اعتقل الانقلابيون من وسط مدرعاتهم وطائراتهم، وخرج الزعيم، الذي نجا بأعجوبة من قصف الانقلابيين للفندق الذي كان يقيم فيه خارج العاصمة، معلنا أن تركيا مدنية وستبقى مدنية، وأن الانقلابيين إرهابيون وسيحاكمون… وأن حملة تطهير شاملة ستنطلق للقضاء على الكيان الموازي الذي يديره فتح الله غولان من بيته في أمريكا. الانقلاب فشل، وتفسيرات عدة أعطيت لفشله، لأن المنتصرين عادة هم من يكتبون التاريخ، لكن السبب الرئيس كان هو الشعب، هذه الكلمة السحرية، التي تستعمل كثيرا ولا تظهر إلا قليلا، تحولت من مجاز إلى حقيقة ليلة الجمعة. المواطن التركي أبدى شجاعة استثنائية وهو يدافع عن الخيار المدني، ويرفض العودة إلى زمن حكم العسكر الذي جربه سنوات طويلة ولم يجنِ منه إلا المآسي. كان هذا درسا للمدني والعسكري على السواء. لا يمكن للشعوب الحية والبلدان السائرة في طريق النمو أن تقبل بحكم الدبابة ونظام البندقية بعدما جربت طعم الديمقراطية والحرية وحق اختيار من يحكم. نعم، يمكن للدول المتخلفة أن تقبل بحكم العسكر، كما وقع في مصر قبل ثلاث سنوات، وبلدان عربية أخرى في القرن الماضي. السبب الثاني الذي أفشل الانقلاب هو عجزه أو توفير أي غطاء سياسي لجريمته. الأحزاب الممثلة في البرلمان، بما فيها الحزب الكردي الذي يكره أردوغان أكثر من أي شيء في العالم، وقف إلى جانب الأحزاب الثلاثة الأخرى ضد الانقلاب، ووضعت جميع الأحزاب خلافاتها جانبا، ووقفت ضد المحاولة الانقلابية لجزء من الجيش على الحكومة المنتخبة. لم تفعل النخب العلمانية التركية ما فعلته النخب العلمانية العربية التي دفعها فقر الديمقراطية في دمها إلى التحالف مع الاستبداد، والانقلاب ضد حكم الإسلاميين المنتخبين… اليسار واليمين والأكراد مختلفون مع أردوغان حول مضمون سياساته، وليسوا مختلفين معه حول طبيعة الحكم والنظام السياسي القائم، هذا هو الفرق بين العلمانيين عندنا والعلمانيين عندهم. السبب الثالث الذي ساعد على فشل انقلاب تركيا هو التعددية الإعلامية، وتطور وسائل الاتصال الحديثة التي لم يستطع الانقلابيون السيطرة عليها كما في السابق، حيث كان يكفي دخول العسكر إلى الإذاعة والتلفزة الرسمية وتلاوة البيان الأول ليفرضوا سطوتهم على التوجيه الإعلامي للجمهور. ليلة الجمعة واجه الانقلابيون 400 تلفزة تركية وملايين المنخرطين في شبكتي الفايسبوك والتويتر والانستغرام… وكان لافتا أن أول خطاب لأردوغان كان عن طريق الهاتف الذكي لشركة آبل، حيث استعمل من مكان اختبائه تقنية «الفايس تايم» ليدعو الأتراك إلى الثورة على الانقلاب والخروج إلى الشارع واعتقال المتمردين… تكنولوجيا الإعلام والاتصال الحديثة كسرت احتكار الأخبار، وجعلت من المواطنين منتجين ومستهلكين للأخبار وللتواصل، وهذا كله يعزز الحرية، ويرخي قبضة الاستبداد على عنق المجتمعات. أما السبب الرابع الذي يقف خلف فشل الانقلاب العسكري في تركيا فهو ولاء مؤسستي الأمن والمخابرات للحكومة، لقد اتضح أن المجهودات الإصلاحية التي قامت بها حكومة أردوغان على مدى 14 سنة من الحكم أفلحت في إعادة هيكلة المؤسسة الأمنية، وجعلها في خدمة البلاد وليس في خدمة أشخاص أو لوبيات أو مخططات داخلية أو خارجية. لقد لعبت قوات الأمن والمخابرات دورا كبيرا في اعتقال الانقلابيين بعدما شلت الجماهير حركتهم في الشارع، ومنعت تحركهم نحو مؤسسات الدولة الحيوية، وكان في مقدور قيادات الأمن والمخابرات أن تقف على الحياد، أو أن تنضم إلى الانقلابيين حتى تضمن لها موقعا مريحا في ترتيبات ما بعد الانقلاب، لكن هذه الأجهزة الحساسة اختارت الدفاع عن الديمقراطية والشرعية والحكم المدني. بقي أن نقول كلمة للدولة المغربية، التي عبر بيان وزارة خارجيتها عن إدانة الانقلاب والوقوف إلى جانب الحكومة المنتخبة في تركيا، في وقت كانت جل الدول العربية تنتظر نتيجة الانقلاب، وبعضها يهيئ للاحتفال بسقوط أردوغان. إن الموقف الذي عبرت عنه الدبلوماسية المغربية وتوقيته يشرف كل المغاربة، ويمحو عار بعض الأصوات التي خرجت تطبل وترقص للموسيقى العسكرية في بلاد جربت مآسي الانقلابات العسكرية الفاشلة، وفي مملكة كانت حياة الجالس على العرش في خطر يوم وجد محمد السادس نفسه وهو طفل بين يدي عسكري ألقى به في حوض السباحة بقصر الصخيرات، وكان يستعد لإطلاق الرصاص عليه لولا تدخل زميل له في آخر لحظة نهاه عن قتل طفل بريء.