حلقة اليوم من برنامج "حكايات من زمن فات"، الذي يُقدمه "اليوم 24" لمتصفحيه خلال شهر رمضان المُعظم، عن أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم العظماء، والذين شهدت مواقفهم بعلم وبطولة وحكمة غير مسبوقة، إنه الصحابي الجليل حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن العباس رضي الله عنه ولد عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، الصحابي جليل، وابن عم النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بثلاث سنين، وكان ابن ثلاث عشرة سنة إذ تُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعُرف عنه ملازمة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ أن كان طفلاً، وكان صلى الله عليه وسلم دائماً ما يدعوا له أن يملأ الله جوفه عِلماً وأن يجعله صالحاً، وكان يدنيه منه ويربّت على كتفه وهو يقول: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"، وفي إحدى المرات كان يركب خلف الرسول صلى الله عليه وسلم فوق بغلة، أهداها له كسرى، ثم التفت إليه وقال: يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد مضى القلم بما هو كائن، فلو جهد الناس أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه، ولو جهد الناس أن يضروك بما لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فاصبر؛ فإن في الصبر على ما تكرهه خيرًا كثيرًا، واعلم أن مع الصبر النصر، واعلم أن مع الكرب الفرج، واعلم أن مع العسر اليسر، وذات يوم أثنى عليه صلى الله عليه وسلم قائلاً: «وإن حبر هذه الأمة لعبد الله بن عباس». وعُرف رضي الله عنه بالعلم الوافر والاجتهاد الكثير، فذات يوم وهو لا يزال غُلاما دعاه الفاروق عمر رضي الله عنه في مجلس علم مع كبار الصحابة ليتدارسوا العلم، وقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر ما قد علمتم؛ فالتمسوها في العشر الأواخر، ففي أي الوتر ترونها؟ فقال بعضهم: التاسعة، وقال بعضهم: السابعة، والخامسة، والثالثة، فلما رأى عبد الله صامتا احتراما للصحابة طلب منه الحديث فقال: إني لأظن أين هي، إنها ليلة سبع وعشرين، فقال عمر: وما أدراك؟، فقال: إن الله تعالى خلق السماوات سبعاً، وخلق الأرضين سبعاً، وجعل الأيام سبعاً، وخلق الإنسان من سبع، وجعل الطواف سبعاً، والسعي سبعاً، ورمي الجمار سبعاً، فقال عنه عمر: ذلك فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول. ومن المواقف التي تُبين ذكاءه وفطنته، يوم أن بعثه الإمام علي رضي الله عنه إلى طائفة من الخوارج، فسألهم: ماذا تنقمون من علي؟ فقالوا: "نَنْقِم منه ثلاثًا: أولاهُن أنه حكَّم الرجال في دين الله، والله يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}، والثانية: أنه قاتل ثم لم يأخذ من مقاتليه سَبْيًا ولا غنائم، فلئن كانوا كفارًا فقد حلّت له أموالهم، وإن كانوا مؤمنين فقد حُرِّمَت عليه دماؤهم، والثالثة: أنه رضي عند التحكيم أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين استجابةً لأعدائه، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين. فنظر بن العباس لهم وقال: أمّا قولكم: إنه حَكّم الرجال في دين الله، فأي بأس؟! إن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُم}، فَنَبِّئوني بالله، أتحكيم الرجال في حَقْن دماء المسلمين أحق وأوْلى، أم تحكيمهم في أرنب ثمنها درهم؟! وأما قولكم: إنه قاتل فلم يسْبِ ولم يغنم، فهل كنتم تريدون أن يأخذ عائشة زوج الرسول وأم المؤمنين سَبْيًا، ويأخذ أسلابها غنائم؟! وأما قولكم: إنه رضي أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين حتى يتم التحكيم، فاسمعوا ما فعله رسول الله يوم الحديبية؛ إذ راح يُملي الكتاب الذي يقوم بينه وبين قريش، فقال للكاتب: اكتب: «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله». فقال مبعوث قريش: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صَدَدْناك عن البيت ولا قاتلناك، فاكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. فقال لهم الرسول: «والله إني لرسول الله وإن كَذَّبْتُم». ثم قال لكاتب الصحيفة: «اكتب ما يشاءون، اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله» وما كاد ينتهي النقاش حتى نهض منهم عشرون ألفًا معلنين اقتناعهم، وخروجهم من خُصومة الإمام علي رضي الله عنه. من أقواله رضي الله عنه إذا أتيت سلطانًا مهيبًا تخاف أن يسطو بك، فقل: الله أكبر، الله أكبر من خلقه جميعًا، الله أعز مما أخاف وأحذر، أعوذ بالله الذي لا إله إلا هو، الممسك السموات السبع أن تقعن على الأرض إلا بإذنه من شر عبدك فلان وجنوده وأتباعه وأشياعه من الجن والإنس، إلهي كن لي جارًا من شرهم، جل ثناؤك، وعز جارك، وتبارك اسمك، ولا إله غيرك. ثلاث مرات. ومنها "خذ الحكمة ممن سمعت؛ فإن الرجل يتكلم بالحكمة وليس بحكيم، فتكون كالرمية خرجت من غير رامٍ" وكان يقول "إني لآتي على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذي أعلم. وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل، ويحكم بالقسط، فأفرح به وأدعو له. ومالي عنده قضيّة. وإني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا فأفرح به، ومالي بتلك الأرض سائمة." وتوفى رضي الله عنه بالطائف سنة ثمانٍ وستين، وهو ابن إحدى وثمانين سنة، فرضي الله عنه وأنزله خير منزلة.