يبدو أن الفصيل القاعدي المسمى «البرنامج المرحلي» مازال في جعبته الكثير من المفاجآت للجامعة وطلابها، فبعدما تورط السنة الماضية في قتل الطالب الحسناوي في جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، ها هو يرتكب جريمة أخرى لا تقل عن الأولى وحشية وبربرية في جامعة المولى إسماعيل في مكناس، حيث عمدت مليشياته المسلحة إلى اعتقال الفتاة شيماء، عاملة المقصف في كلية العلوم، لمجرد الاشتباه في كونها مخبرة (بركاكة) للمخابرات. ولأن هذا الفصيل «الداعشي يساريا» ثوري جدا ولا يتسامح مع العملاء في جمهوريته الحمراء، فإنه عمد إلى عرض الفتاة القاصر شيماء على محاكمه غير الشرعية، لتقول الجماهير الطلابية حكمها في هذه «الخائنة المندسة»، ثم بعدما تراوحت الآراء بين قطع اليد أو اللسان أو سمل العين، ارتأى «العقلاء» من البرنامج المرحلي أن حلق الرأس والحاجبين يكفي في هذه المرحلة على الأقل. وهكذا استفادت شيماء من «حكم مخفف» من قبل الرفاق والرفيقات الذين لم ترق قلوبهم لتوسلات شيماء وبكائها بين يدي اللجان الثورية، فمع الإهانة بحلق الرأس والحاجبين، أكلت المسكينة وجبة من الضرب والركل والصفع والسب، حيث ستحكي لأبنائها وأحفادها عن جامعة أصبحت تقدم دروسا تطبيقية عن أساليب العصور الوسطى في تعذيب البشر وتحطيم معنوياتهم، وهو ما انتقده فلاسفة النهضة، وكتب ميشيل فوكو كتابه الشهير حول الجريمة والعقاب (surveiller et punir)، موضحا أن التعذيب في سجون العصور المظلمة في أوروبا كان أداة حكم للملوك المستبدين وليس وسيلة لمنع الجريمة. كيف يسمح شاب يحمل معه كتبا وأقلاما وهاتفا محمولا وبطاقة طالب وله حساب على الفايس بوك، لنفسه بأن يتحول إلى جلاد يعيد إنتاج ممارسة التسلط البدائي، والعادات السيئة لمخزن القرون الوسطى، الذي كان يعاقب الخلق بإهانتهم وحلق رؤوسهم وجلدهم، ورميهم مع المجانين أو المصابين بأمراض معدية، أو تقطيع أطرافهم أو سمل أعينهم؟ كيف يحيي فصيل يساري هذا التراث الوحشي في القرن ال21، وهو يعرف نفسه بأنه تقدمي وثوري ويدافع عن البروليتاريا وضد الدولة والسلطة والمخزن والقمع، فيما هو يشرف على تعذيب قاصر في ساحة الكلية؟ كيف نبتت كل هذه البربرية وهذا العنف في عقول شباب صغار يعيشون في قلب العصر الحديث الذي صارت فيه حقوق وكرامة الإنسان وسلامة بدنه من المقدسات؟ كيف يحكم طلاب على عاملة بسيطة في مقهى الكلية بقطع اليد وبحلق الرأس والحاجبين؟ وكيف لم يخرج من وسطهم ولو صوت واحد يقول: «كفى، نحن طلبة ولسنا جلادين. نحن يساريون منحازون إلى الحداثة لا إلى البربرية. نحن تقدميون نتطلع إلى المستقبل. حتى لو كنا نعيش في غابة، فليس ضروريا أن يصير طالب علم حيوانا». حتى لو كانت شيماء مخبرة لدى أجهزة الأمن للتجسس على الطلبة، وهذا أمر يصعب التثبت منه، فإنها تبقى مواطنة وإنسانة لها حقوق ولها كرامة ولها حرمة يجب ألا يعتدى عليها، ثم إن الجامعة ليست «كمونة شيوعية» أو خلية ثورية.. الجامعة مؤسسة عمومية مفتوحة أمام عيون الإدارة والأمن والمخابرات والمجتمع. مسؤولية هذا الفصيل الإرهابي ثابتة في جريمة الاعتداء على شيماء، ومسؤولية الإدارة الجامعية قائمة وهي التي لم تتحرك لحماية مواطنة تعرضت للخطر، وكان يجب إنقاذها من براثن الكتائب الداعشية لهؤلاء القاعديين الذين لهم تاريخ «غير مجيد» في إدخال العنف إلى الجامعة باسم الثورة والنضال والخيارات الجذرية، وعقلية الإقصاء التي ورثوها لمن جاء بعدهم إلى الجامعة يمينا ويسارا. المسؤولية الثالثة عما جرى في جامعة مكناس يتحملها الأمن، المسؤول عن حماية أرواح وسلامة المواطنين طلبة وعمالا وفلاحين، صغارا وكبارا. أين كان والي الأمن؟ وأين كانت أعين أجهزته لكي لا تتدخل لمنع محاكمة قاصر والاعتداء على سلطة الدولة في الجامعة؟ كاتب هذه السطور لا يؤمن بالخطوط الحمراء في الفكر ولا في السياسة، فالحرية لا سقف لها، إلا استثناء واحدا هو العنف والقتل وشريعة الغاب، هنا يجب أن نسطر خطا أحمر غليظا أمام الجميع.. أمام المجتمع وأمام السلطة، أمام اليمين وأمام اليسار، أمام الإسلاميين وأمام العلمانيين. مهما اختلف المغاربة حول السياسة والإيديولوجيا والثروة والسلطة والنفوذ والتأثير، فيجب أن يبقوا داخل خيمة السلمية والمدنية وحوار العقلاء. عارض، ارفض، تظاهر، ندد، شارك في الانتخابات أو لا تشارك، أيد النظام أو ارفضه، اعتنق الدين أو طلقه، لكن إياك والعنف، إياك والقتل، إياك وحمل السلاح، إياك وتهديد السلم الأهلي، إياك وتنصيب نفسك مكان الدولة أو مكان القضاء أو مكان البوليس أو الجيش. مهما كان اعتراضك على السياسات العمومية وتوجهات الحكم وقرارات المؤسسات، ناضل سلميا من أجل التغيير، راهن على المجتمع وقوته الناعمة، راهن على الثقافة وتأثيرها العميق، استعمل الجريدة والإذاعة والفايسبوك والحزب والنقابة والجمعية وصوتك في الانتخابات، للتعبير عن رأيك وغضبك ومشروعك وطموحك ومصلحتك.. هذا هو قانون العصر الحديث، وهذا هو الخط الأحمر الوحيد الذي يجب ألا يتم تخطيه مهما كانت البواعث والمبررات. خلال الحرب الأهلية اللبنانية، عقد اجتماع ل«الحركة الوطنية اللبنانية» للبحث عن آفاق للمصالحة تسكت نيران الحرب. اللقاء حضره رئيس الوزراء اللبناني، تقي الدين الصلح (1908-1988)، فبادره أحد زعماء الميلشيات المسلحة بالقول: «نحن هنا نمثل المقاتلين.. أنت من تمثل؟»، فرد رئيس الوزراء بهدوء وحكمة على الفور: «أنا يا ابني أمثل المقتولين».