يُمثل يوم الثلاثين من شهر مارس من كل سنة لحظة خاصة في حياة الفلسطينيين، يستحضرون خلاله ألم اغتصاب أرضهم بعد تهجير شعبهم، ويعبرون عن إرادتهم الجماعية في استمرار مقاومتهم للاغتصاب إلى حين استعادة الأرض وتحريرها وتطهيرها. ولأن لمكانة الأرض في الوجدان والمخيال الجماعيين لأبناء فلسطين تقديراً خاصاً، فقد شكلت ذكرى يوم الأرض الفلسطيني على الدوام فرصةً لتأكيد الارتباط العميق بكل شبر من أرض فلسطين، والإصرار اللامنتهي للدفاع عنه، وعما بقي لأبناء فلسطين من أرضهم التاريخية. لم أزر فلسطين، وأمنيتي أن أزورها يوماً ما، لكن زرتها بالقراءة، والمشاهدة، وبشرف التعرف على أبنائها الطيبين، وبالاحتكاك ببعض أسمائها ورجالاتها الفكرية والسياسية، وكلما كنت أحل بالدول المجاورة لها في الأردن وسوريا ولبنان، كنت أشم عبق فلسطين، رأيت أضواءها ليلا من مرتفعات منطقة «السلط» في الأردن، كما كنت أستمتع برؤية أضواء أريحا ليلا من شرفات الفندق في البحر الميت، وفي الوقت نفسه كنت أعتصر حزنا على رؤية المزارع العصرية نهاراً التي اغتصبها الإسرائيليون وحولوها إلى ضيعات لهم، وفي لبنان وقع نظري على الجليل الأعلى من مرتفعات هضاب النبطية، ولمحت القدس من نافذة الطيران الأردني المُقلع من مطار الملكة علياء حين كان يحلق عند الانطلاق فوق سماء القدس.. إنها فلسطين التي تكثف بآلامها، وبطولاتها، أعمق وأفظع مأساة إنسانية في القرن العشرين. من أجود ما قرأت عن فلسطين التاريخية مذكرات شيخ المؤرخين «نيقولا زيادة» الموسومة «أيامي»، وهي في جزأين، مكتوبة بخط صغير وكثيف، يُذكر أن مؤرخنا وُلد عام 1907 وتوفي سنة 2006، بل بالضبط شهورا قليلة قبل أن يكمل القرن من عمره، وهو بذلك شاهد على كل التطورات التي عاشتها فلسطين، بدءاً من اتفاقية سايكس-بيكو )1916(، ومرورا بالانتداب البريطاني، وحتى صدور قرار تقسيم فلسطين ) 1947(، كما أذكر حين زرته في شقته في وسط بيروت قبل سنة من وفاته، أي عام 2005، كيف كان الرجل في يتمتع بالحيوية بالمقارنة مع سنه، كما كان قلمه غير متوقف عن الكتابة والإنتاج. في سِفر مذكراته يجول القارئ في أجواء فلسطين التاريخية، عبر مدنها وقراها، و ضيعاتها وبساتينها، ومؤسساتها التعليمية. فقد خصص حيزاً مهما للحديث عن حياة الفلسطينيين، وعن كل شبر من مدنهم وقراهم، كما أفرد أكثر من مقطع لقطار الحجاز الذي كان ينطلق من فلسطين بالشام وصولا إلى الحجاز، حاملا الناس والبضائع والغِلال الطازجة من فلسطين وسوريا. وتحدث أيضا عن آثار العثمانيين في منطقة الشام عموماً، وفلسطين على وجه الخصوص.. وفي كل مقطع من مقاطع مذكراته تلمس دفء الحياة في فلسطين وبلاد الشام عموما، وجمال المكان بكل مكوناته البرية والبحرية، وحب الإنسان للحياة، وعشق الأسرة، والتمسك بالعيش في كنفها.. في المذكرات أيضا تأريخ لوقائع السعي الحثيث إلى الاستيطان في فلسطين، والمشاريع التي توالت من أجل تكريس وجود إسرائيل وحماية استمرارها. ثم إن نيقولا زيادة بحسِّه النقدي وشمولية اطلاعه، وتعدد لغاته، مسك بخيوط التآمر على فلسطين، والدسائس التي نسجت من أجل تهويدها. خلّد الفلسطينيون هذا العام الذكرى الأربعين لإعلان يوم الأرض )1976-2016 (، وقد خلدوها في سياق عربي متوتر بسبب الصراعات الطائفية والمذهبية، التي أضعفت الاهتمام بفلسطين، وأرجعت مكانتها إلى الخلف، بعدما كانت لعقود تتصدر الشأن العربي. لذلك، يتوجب على قادة الفكر وصناع القرار الإبقاء على القضية الفلسطينية حيةً، ومتجددةً، والسماح لها بالاستمرار على رأس أولويات الإنسان العربي، لذلك، علينا جميعا ألا ننسى يوم الأرض الفلسطيني.