استقر الدكتور المغربي، محمد الطاهر الأحرش، في البيرو، منذ سنوات، ولم يتردد في الانخراط، بكل عزم، في العمل التطوعي الإنساني ضمن مجال تخصصه في طب الأطفال، فذاع صيته في البلاد، وجاب مختلف المدن والقرى. وأشرف على قوافل طبية بلغت حتى أعماق الأمازون، كان هدفه منها تيسير خدمات طبية مجانية لفائدة الأطفال، وإبراز صورة بلده المغرب، الذي يعتز به، وبالعمل الإنساني الذي لا يعترف بالحدود. محمد الطاهر الأحرش، حاليا، في عقده السابع لكن السنين لم تأخذ من حيويته ونشاطه شيئا.. فظلت روح الشباب حاضرة لديه والابتسامة مرسومة على محياه، حتى وهو في أصعب المواقف.. يسكنه هم العمل الإنساني كما لا يخفي حبه الكبير لمدينته سلا، ولناديه المفضل "الجمعية السلاوية"، التي يعشقها في السراء والضراء. عندما حط الرحال في البيرو أعجب كثيرا بهذا البلد، الذي يشبه في جماليته روعة المغرب فقرر بداية تعلم وإتقان اللغة الإسبانية لتسهيل التواصل، وتحقيق الاندماج بشكل أفضل، ثم مد جسور التواصل مع الجمعية البيروفية لطب الأطفال وذلك بهدف وضع التجربة الأكاديمية والخبرة العلمية، التي راكمها في المغرب لسنوات في مجال طب الأطفال رهن إشارة زملائه البيروفيين. وهي الخطوة التي لاقت استحسانا كبيرا ليتم على إثرها تنظيم ندوة علمية حول "علامات وأعراض سرطان الطفل" عام 2011 بأريكيبا (ألف كلم جنوب ليما) استعرض خلالها تجربة المملكة المغربية في برنامج الرصد المبكر لسرطان الطفل، والمخطط الوطني للوقاية، ومراقبة هذا المرض من خلال البرنامج، الذي أطلقته مؤسسة للا سلمى للوقاية، وعلاج السرطان، واقترح في هذا السياق الاستفادة من هذا البرنامج في البيرو. ولمد جسور التعاون في مجال طب الأطفال، ترجم الدكتور الأحرش، تحت إشراف ودعم سفارة المملكة المغربية بليما، دليلا حول تكوين العاملين في الصحة "التشخيص المبكر لسرطان الطفل: مؤلف تكوين أطباء القرب". ونظرا إلى الجودة العلمية لهذا المؤلف، فقد حظي بتقدير كبير من قبل الجمعية البيروفية لطب الأطفال، وتم إدراجه في برامج التكوين بالعديد من كليات الطب في البيرو. ثم جاءت بعد ذلك مرحلة الانتقال إلى العمل الميداني، ليس فقط في العاصمة ليما، ولكن بمختلف أنحاء البلاد من خلال إشراف البروفيسور الأحرش على تكوين "أطباء القرب" وتزويدهم بالدليل المترجم إلى الإسبانية وبملصقات ديداكتيكية تبين جميع الأعراض التي تمكنهم من تشخيص داء السرطان عند الطفل وسبل الوقاية منه. وفضلا عن الأحياء الفقيرة بالعاصمة ليما ك"سان خوان لوريغانشو"، و"فيا سلفادور"، واصل الطبيب المغربي مشاركته في حملات طبية، خصوصا تلك التي تستهدف المناطق النائية في جبال الأنديز، وغابات الأمازون، حيث يعاني الأطفال سوء التغذية والأمراض المعدية وأمراض الجهاز التنفسي والإسهال الحاد. ويقول الأحرش، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، إنه "كمغربي كان له الشرف أن يمثل بلاده ويقدم نموذجا على أن المغرب منفتح على جميع البلدان، ورجالاته مستعدون لتقديم ما بوسعهم لتقاسم التجربة مع الآخرين والمساهمة في تقدم بلدان شقيقة وصديقة"، مشيرا إلى أن ذلك يعد "أبلغ عربون عن الصداقة والأخوة، التي يمكن أن تجمع بين بلدين". وأضاف أنه لم يواجه أي صعوبة في الاندماج في المحيط الجديد خلال الحملات الطبية، التي يقوم بها وقد قادته الظروف إلى أن يقيم داخل دير بمعية الرهبان، ولكن كل شيء تم في انسجام تام ما دام المبدأ واحد، وهو تقديم المساعدة للآخرين. وتابع الأحرش أن البيرو بلد يتميز بمساحته الشاسعة وصعوبة تضاريسه الجغرافية، وبالتالي "فإننا نواجه صعوبة الانتقال من مكان إلى آخر خلال الحملات الطبية للوصول إلى وجهات نائية صعبة الولوج فنضطر إلى استخدام الطائرة، وركوب القوارب الصغيرة في رحلة قد تستغرق وسط أنهار الأمازون أزيد من 12 ساعة.. ولكن العزيمة والرغبة في تقديم الخدمات الصحية أمر يدخل في باب الواجب، الذي لا يسقط على من يؤمن بالعمل الإنساني". وبتواضع الكبار يخجل الأحرش من التوقف عند محطة الاعتراف والامتنان، الذي حظي به في المجتمع البيروفي، خصوصا من قبل المسؤولين عن قطاع الصحة في هذا البلد الجنوب أمريكي، فقد تم تكريمه غير ما مرة، سواء من قبل جامعات، ومعاهد، ومؤسسات علمية مرموقة لقاء جميل صنيعه وخدماته الجليلة، وهو المغربي القادم من بلد قصي يحمل في قلبه هم مساعدة الناس لتجاوز المحن الصحية. ويؤكد البروفيسور الأحرش أن العمل الإنساني والاجتماعي، الذي انخرط فيه لا يبتغي وراءه لا الشهرة، ولا المجد، بل هو نابع أساسا من قناعة راسخة لديه منذ زمان مفادها أنه لا بد للإنسان أن يكون بجانب أخيه الإنسان، وهو أمر ليس بغريب على المغاربة أهل الإيثار والكرم والجود والسخاء، وسعة الصدر، ونكران الذات سواء أكانوا داخل الوطن أم خارجه. بين الفينة والأخرى يصعد الدكتور الأحرش إلى إحدى القمم الجبلية، المطلة على ليما ليتأمل في مسار رحلة أخرى ستقوده، وشيكا، إلى وجهة جديدة استجابة لنداء الانسانية، التي تسمو فوق أي اعتبار.