على مدى السنوات الخمس الماضية من عمر الربيع العربي والمغاربي، لم تختف دوله ولو مرة واحدة من نشرات الأخبار العالمية والمحلية، ولم تتراجع مفاتيح كلماته على محركات البحث الكبرى في عالم النيت، ولم تهدأ الأسئلة شرقا وغربا حول مصير هذه الرقعة الجغرافية من العالم، التي تشغل العدو والصديق على السواء، والتي أصبحت اليوم منتجا ومصدرا لسلعة خطيرة اسمها الإرهاب، ولسلاح فتاك اسمه «الصراع المذهبي والطائفي والعرقي». ما عاد العالم يهتم بالعرب فقط لأن في بلدانهم النفط وإسرائيل، انضاف مصدر آخر لاهتمام الشرق والغرب بِنَا.. إنه داعش، وقبلها وبعدها هذه الرحم التي تنتج التطرف والإرهاب والتوحش لأسباب داخلية ولأسباب خارجية. لا يمكن للمرء أن يطل على هذه القطعة الجغرافية المشتعلة دون أن يرى أنها ضيعت فرصا كثيرة، ومازالت تضيع فرصا جديدة للخروج من التخلف والاستبداد والحروب والأزمات. طيلة الخمسين سنة الماضية كُتبت قصص نجاح كثيرة في العالم لدول خرجت من الفقر (الصين)، أو من الديكتاتورية (إسبانيا والبرتغال واليونان)، أو من الميز العنصري (جنوب إفريقيا)، أو من التخلف (البرازيل)، أو من التبعية للغرب (تركيا)، لكن لم تكتب قصة نجاح واحدة في منطقتنا العربية والمغاربية، ولم تدخل أي دولة من دول الضاد إلى نادي الديمقراطيات العالمية، بل على العكس، شهدت المنطقة العربية وتشهد اليوم المزيد من الحروب الأهلية، والمزيد من الدول الفاشلة، والمزيد من الفقر والفوارق الاجتماعية. يعتقد البعض أن العالم العربي كان سيكون أفضل لو لم تنفجر ثورات الربيع في هذه القطعة الميتة من الجغرافيا العالمية، وأن أحوال تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا وغيرها كانت ستكون أفضل من الفوضى المنتشرة الآن. لنفكر، إذن، في السيناريو الذي لم يقع، لكن المرجو أن نحمل معنا ورقة مرجعية واحدة فقط.. ورقة أنتجها خبراء ومثقفون ومفكرون عرب وأجانب في تقرير التنمية البشرية، الذي تشرف عليه الأممالمتحدة، وفيه نقرأ: «إن الدول الإفريقية جنوب الصحراء والدول العربية توجد معا في أسفل ترتيب الأمم على جميع المستويات من عدد وفيات الأطفال، إلى نقص مياه الشرب، إلى الفساد الاقتصادي والمالي، إلى غياب المساواة بين الجنسين، إلى اتساع الفوارق بين الأغنياء والفقراء، إلى تدني الإنتاج العلمي وعدد الكتب المترجمة عن اللغات الحية، إلى هبوط نسب التمدرس في صفوف الأطفال، إلى غياب برامج للحفاظ على البيئة، إلى ضعف المشاركة السياسية للمواطنين، إلى نقص السكن والتطبيب»… وكل ذلك بالأرقام والنسب والجداول والمؤشرات العلمية، مما لا يترك مجالا للجدال حول تصنيف العرب إلى دول متخلفة ومهددة بشتى المخاطر… هل منطقة بهذا السوء وبحجم تغيرات هائلة تخترق ديمغرافيتها واقتصادياتها ومجتمعها وقاعدة شبابها ستبقى جامدة في ثلاجة الأنظمة العربية بدون حركة؟ هذا مستحيل (اليوم 120 دولة في العالم من أصل 193 تعتبر ديمقراطية بهذا الشكل أو ذاك، وهذا معناه أن الدول العربية صارت غريبة عن عصرها، فاقدة الصِّلة بزمانها في تناقض مع منطق الحاضر، أما المستقبل فهي خارجه). ما هي أسباب هذا الحراك السياسي الذي نجح في بلدان، وفشل في أخرى، ومازال يقاوم في ثالثة؟ أولا: الأنظمة السلطوية التي انهارت أو تزعزعت، وصلت إلى درجة من الإنهاك لم تعد قادرة معها على الاستمرار، ومصدر هذا الإنهاك هو الجمع بين متناقضات كثيرة، اقتصادية وسياسية وثقافية وديمغرافية. خذ مثلا: رأسمالية الاقتصاد وديكتاتورية السياسة، وقاعدة ديمغرافية شابة ونظام سياسي عجوز.. ثورة تكنولوجية هائلة حملت الغرب بخيره وشره، بقيمه ونمط استهلاكه، ورموزه وأنماط حكمه الحديثة، إلى بيت العرب القديم والمحافظ على طابع العصور الوسطى، حيث ولي الأمر مازال متكئا على نمط الحكم السلطاني… تدبير كل هذه التناقضات كانت له حدود، عندما تخصخص مرفقا عاما أو سلعة أو خدمة فأنت تطلق مجموعة من القيم في المجتمع.. قيم فيها التنافس وإنهاء الاحتكار، والدعوة إلى الشفافية والسوق المفتوحة والاحتكام إلى القانون، ووقوف الدولة على المسافة نفسها بين المتنافسين جهازا لتنظيم السوق لا للتدخل فيه.. جهازا للرقابة لا للتحكم.. جهازا يفصل بين سلطة تنظيم السوق ودخوله للاغتناء والتربح غير المشروع. إذن، كيف ستحجب هذه القيم عن الانتقال إلى المجال السياسي؟ كيف؟ ثانيا: الثورة الصناعية استغرقت قرنا في السابق لتحدث تغييرات سياسية واجتماعية وثقافية في بلدانها، لأن جغرافية هذه الثورة كانت محدودة، والعبور كان أمامها بطيئا، والانتشار كان يتطلب وقتا، أما اليوم فإن الثورة التكنولوجية الحديثة وفورة الإعلام والاتصال صارت تنتشر بسرعة هائلة، وهكذا في أقل من جيل ارتفع منسوب حرية التعبير والقول والكتابة والنشر، وصارت تغريدة في تويتر تصنع تظاهرة، وفضيحة في الفايسبوك تصنع حركة احتجاجية، وفتوى في موقع على النيت تحرك الجمهور، وخطبة في اليوتيوب تصنع الحدث. فقدت الدولة العربية والمغاربية احتكار إنتاج المعرفة والمعلومة والصورة والحدث والرموز والقيم وثقافة الطاعة وتقاليد الخضوع. كل شيء في عالم الاتصال والتواصل يسوق قيما ضد الاستبداد، ضد الاحتكار، ضد العنف الجسدي، ضد احتقار كرامة البشر، ضد خلط السلطة بالثروة، في حين أن هذه الأنظمة العربية مازالت تنتج قيما لم تعد مطلوبة في السوق ولا مقبولة في وقت الناس هذا. ثالثا: انتقلت الأنظمة العربية من تدبير الوفرة إلى تدبير الندرة، وإذا كان النظام العربي قد فشل في تدبير الوفرة أمام بضعة ملايين من شعبه قبل 50 سنة، فكيف سينجح في تدبير الندرة بعد أن صار العالم العربي 400 مليون وزيادة، وبعد أن نمى الفساد في كل خلايا جسم الاقتصاد، وبعد أن انهارت مؤسسات الحكامة، إن وجدت أصلا. كل هذا جعل عورة الأنظمة العربية مفضوحة أمام شعوبها، وهو ما نزع عنها رداء الشرعية بعد أن سقط جدار الخوف في النفوس.. هذه هي حكاية ميلاد الثورات العربية اليوم وغدا…