يفتتح اليوم حزب الأصالة والمعاصرة مؤتمره الثالث في بوزنيقة، وعلى جدول العمل نقطة واحدة: من سيقود هذه السفينة التي يسافر على متنها خليط غير متجانس من اليسار، الذي أصيب بخيبة أمل من نجاح ثورة البروليتاريا، فاختار التحالف مع المخزن لمواجهة الإسلاميين، إلى جانب الأعيان الذين هربوا من الأحزاب التقليدية نحو الجرار، ظنا منهم أنه الورقة الرابحة في هذه المرحلة، إضافة إلى البرجوازيين والتقنوقراط الذين جاؤوا للجلوس إلى جانب صديق صديق الملك، عَل القرب من الدولة يساعدهم في حماية مصالحهم أو الارتقاء الاجتماعي، أو البحث عن رقعة في مربع السلطة… طبعا إلى جانب كل هؤلاء هناك من التحق بالوافد الجديد من أجل الشعارات التي كان يلوح بها (السياسة بطريقة أخرى)، وهناك من تصور أن الحزب حزب القصر، وأن فؤاد عالي الهمة لما يئس من الأحزاب التقليدية وقدرتها على مواكبة إيقاع M6، خرج إلى الساحة الحزبية لكي ينزل أفكاره عن العمل الحزبي كما يتصوره المحيط الملكي، ولكي لا يترك المصباح يضيء لوحده ساحة سياسية ليس فيها من منافس قوي لعبد الإله بنكيران… كل هؤلاء وغيرهم موجودون في «البام»، لكن ينسى البعض أن هناك أطرافا أخرى يهمها مستقبل هذا الحزب، ونوع الدور الذي يلعبه في مغرب دستور 2011، الذي فتح اللعبة السياسية والانتخابية على نوع من التنافس المفتوح، وعلى صناديق إقتراع لا نعرف كل ما سيخرج منها. هنا يلعب «البام» لعبة في غاية الأهمية والحساسية. صنع الجرار الحدث الأبرز في سنة 2009، وأطلق النار على «البي جي دي»، وحرمه من قيادة عدد من المدن التي فاز فيها في الانتخابات الجماعية لسنة 2009، كما أكل «البام» غير قليل من الأعيان الذين كانوا يشكلون عماد ما كان يسمى بأحزاب الإدارة، وفي النهاية لم يقم الحزب بجديد سوى أنه صنع حلوى كبيرة من مواد كانت متفرقة في أكثر من حزب وتيار وحركة… فجأة، هبت رياح الربيع المغربي فبعثرت أوراق الحزب الجديد، فاضطر للانحناء للعاصفة، والبحث عن حلفاء في اليمين واليسار كان قبل أشهر يعتبرهم أطرافا ميتة في الجسم الحزبي. أما العدالة والتنمية، فإن قيادته حتى وإن أخذت مسافة واضحة من الربيع العربي، فإنها وظفت الحدث بالركوب على شعاراته، ومحاولة تصوير أن العطب المغربي كله يتجسد في «شياطين «البام»»، ومنذ ذلك الحين وبنكيران يرفع أعلام الحرب ضد «البام» ورموزه ومشروعه، وحتى عندما وصل بنكيران إلى الحكومة، ودخل إلى القصر، وشكل أغلبية، وحاز شعبية كبيرة، فإنه دائما ما كان يعرف نفسه وحزبه وزعيمه باعتباره مصلحا في مواجهة «مفسدي «البام»»، وحزبا جاء للتصدي للتحكم الذي صنعه الجرار. لقد اكتشف بنكيران معادلة لم يعثر عليها حزبا الاستقلال والاتحاد الاشتراكي عندما قادا حكومتي اليوسفي وعباس، وهذه المعادلة هي: كيف تقود الحكومة وتستمر في انتقاد نوع من الحكم.. كيف تحكم وتعارض في الوقت نفسه.. كيف تخلق لنفسك هامشا للحركة السياسية وأنت في الحكومة، مادامت هذه الأخيرة رقعتها ضيقة، والحركة فيها محكومة بالتقاليد المرعية، التي لا ينفع معها دستور جديد ولا انتخابات شفافة. كلما ضاقت ببنكيران الحال، أخرج مظلمته السابقة مع «البام»، وبدأ في النواح، وتذكير المغاربة بما فعله «البام» به وبهم. كلما قام في الناس خطيبا وضع أمامه إلياس العمري، وجعله في مرمى مدفعيته الثقيلة باعتباره رمزا لكل ما لا يريده المصباح للمغاربة، وهكذا نجحت الطبخة، وكل مرة كانت أصوات «البي جي دي» تزداد، كان بنكيران يطور هذه الآلية السياسية والدعائية التي تصور للمغاربة أن المعركة مستمرة ضد الفساد والاستبداد، وأن كل الشر الذي يتصورونه مجسد في «البام» وعرابه، وأن كل ما لم يستطع الحزب الحاكم تحقيقه هو بسبب هذا المسمى حزب التحكم… حتى إن حسن بنعدي قال في حوار لهذه الجريدة إن مسؤولا كبيرا من «البي جي دي» -لا أحسبه شخصا آخر غير بنكيران الذي دعا بنعدي إلى بيته- قال له: «إذا وصل إلياس العمري إلى قيادة «البام» فإننا لن نحتاج إلى القيام بحملة انتخابية في 2016». هذا معناه أن بنكيران أصبح ليس فقط خصما كبيرا لحزب الجرار، بل صار واحدا من الناخبين الكبار وسط حزب الخصوم، وهذا أكبر مشكل يواجه قيادة الجرار في المرحلة المقبلة: كيف تتصرف إزاء هذا المأزق؟ فالحزب الذي جاء «البام» لمحاربته وقص جناحه هو نفسه الحزب الذي يتمنى رفاق العمري التحالف معه، أو على الأقل التصالح معه، أو على أقل تقدير تجنب مدفعيته الثقيلة… مادام «البام» لم يصلح خطيئة الولادة فإن احتمال القبول به كحزب عادي، من قبل الأحزاب والرأي العام، سيظل احتمالا ضعيفا… بعد كل التجارب التي عرفها المغرب، لم يعد مقبولا أن يخلق فديك جديد، فالإجماع الحاصل حول النظام الملكي اليوم لم يكن موجودا في الستينات والسبعينات والثمانينات، التي شهدت تفريخ أحزاب الإدارة. اليوم، إما أن يكون الحزب حقيقيا، وله جذور في تربة المغرب، ويعبر عن مصالح مشروعة وأفكار مقبولة وتوجهات مستساغة، أو لا يكون. لماذا يصلح «البام» اليوم؟ سؤال معقد وإجاباته كثيرة، وواحدة من هذه الإجابات أن «البام» ليس حزبا، ولا مشروعا سياسيا، ولا توجها إيديولوجيا… «البام» تعبير عن الخوف من صندوق الاقتراع، والخوف من هيمنة الإسلاميين على السلطة، والخوف من سقوط جدار الخوف في نفوس النخبة، والخوف من سلطة الشارع المتزايدة… وكل هذا الكم من الخوف لا يصنع بديلا ولا ينتج برنامجا، هو فقط يولد ردود فعل تنتج عقدا تحتاج إلى خبرة سياسية وسيكولوجية للتعامل معها، وتحتاج إلى وقت، والوقت سيد العلاج أحيانا.