منذ زمن بعيد فقدت الثقة في استقلالية ونزاهة وشجاعة القضاء في بلدي، ومن باب «الصواب» أمثل أمامه كل مرة، وأشرح وأوضح وأدافع عن نفسي بمعيّة محامين أصدقاء وأساتذة أجلاء، وهذه ليست قناعتي لوحدي، هذه قناعة شريحة واسعة في المغرب لا تثق في عدالة المحاكم المغربية، خاصة عندما يقف المتهم في مواجهة سلطة أو شبه سلطة أو أطراف نافذة أو توهم الآخرين بأنها نافذة… بشرنا وزير العدل والحريات، السيد مصطفى الرميد، بأنه بصدد إصلاح منظومة العدالة المعطوبة، وفتح المجال للجميع للمشاركة في ندوات الحوار الوطني حول إصلاح القضاء، وشاركت في واحدة منها، وقلت للسادة القضاة: «نحن لا نطلب منكم سوى شيء بسيط، أن تكونوا قضاة لا أقل ولا أكثر»، واستعرت جملة كان أندري مالرو، وزير الثقافة في عهد الجنرال دوغول، يقولها عن مواطنيه.. كان يقول: «إننا نحب الفرنسيين فقط عندما يتصرفون كفرنسيين»، فقلت: «إننا نحب القضاة فقط عندما يتصرفون كقضاة». والشهادة لله، هناك بعض القضاة الذين يتصرفون كقضاة، لكن الأغلبية، للأسف، تلبس جبة القاضي طوال النهار وتتصرف بهيبته طوال الوقت، لكن عندما يحين وقت تحرير الأحكام تنزع البذلة السوداء، وتستبدل صوت الضمير بصوت الهاتف المحمول، ومن القضاة من يفعل أسوأ من هذا، فهو لا يحتاج إلى مكالمة أو توجيه أو إشارة في ملف من هنا وهناك.. جهاز الرقابة الذاتية يتعرف لوحده على اتجاه الريح في كل ملف، ويبتعد عن المتاعب تلقائيا، ولا ينطق بحكم لا يقدر على تحمل تبعاته. مرة قال لي قاضٍ كبير خبر دهاليز المحاكم وكواليس الهيئات القضائية في كل مستوياتها: «لا تنم إذا كانت لديك قضية في المحكمة حتى يخرج الملف من يد القاضي، فأنت لا تعرف من سيدخل على الخط». أول أمس اختار القاضي السعداوي، في القاعة السابعة بابتدائية عين السبع، أن يقرأ حكما غريبا عجيبا، وبمقتضاه يدينني بالحبس (أربعة أشهر موقوفة التنفيذ)، والغرامة (20 ألف درهم)، والتعويض (160 مليون سنتيم) ، ونشر حكم في صحف أخرى على نفقتي… والتهمة هي قذف أحمد الشرعي وريتشارد منيتير لأنني علقت على مقال نشر في مجلة فوربيس الأمريكية، وترجم بالحرف في «الأحداث المغربية»، ووجدت أنه مقال غير مهني ومليء بالكذب والبهتان عن وزير أوقف برامج الترفيه في التلفزة، واستبدلها ببرامج دينية متزمتة، ورئيس حكومة (بنكيران) يقود المغرب إلى النموذج الإيراني بعيدا عن توجهات الملك الليبرالية المعتدلة، وعن المستثمرين الغربيين الذين يفرون من المغرب الذي تحول فيه الربيع العربي إلى خريف إسلامي… لما وجدت هذا الكم الهائل من الأخطاء والأكاذيب والتحامل على الحكومة، وعلى سمعة المغرب وتجربته الفتية في صحافة موجهة إلى رجال الأعمال في أبريل 2012، بدأنا نبحث عن السبب، فوجدنا صاحبنا ريتشارد منيتير يشتغل بقبعتين (صحافي ولوبييست)، أي أنه يشتغل في النهار صحافيا، وفي الليل كجماعة ضغط لصالح الجهة التي ترتبط به. وجدنا اسمه على لائحة وزارة الخزانة الأمريكية في موقعها الرسمي يصرح بأنشطة «الضغط واللوبيينغ»، ووجدنا «دراسات» له حول المغرب والعدالة والتنمية بعيدة عن الموضوعية، فأخرجنا كل هذا إلى العلن بعد أن طلبنا رأي المعنيين بالأمر فلم يعلقوا، ثم قلنا إن المسألة فيها بياضات، وإن ما تسرب من وثائق ومراسلات في حساب كوليمان يحتاج إلى وقفة وتدقيق، وهذا ما قاله القاضي الإسباني الذي رفض دعوى الشرعي ضد صحافي «إلموندو» سامبريرو، الذي واجه تهمة أفظع من تلك التي وجهت إلينا، لكن القاضي قال جملة شهيرة في الحكم مفادها: «إن الحقيقة في الصحافة لا تعني أنها مطابقة مائة في المائة للواقع، لكن الحقيقة في الصحافة تقاس بحجم مجهودات التحري التي يقوم بها الصحافي للوصول إليها، والباقي يدخل في نطاق حق الجمهور في معرفة ما يجري. إن ما يوجد أمام القاضي، من مؤشرات وشهادات ووقائع، لا يسمح بإدانة الصحافي بتهمة القذف أو الإساءة إلى المدعي». من حق أي أحد أحس بأن الصحافة ظلمته أو أساءت إليه أو نسبت إليه خبرا كاذبا أن يذهب إلى القضاء يطلب تصحيحا أو تعويضا أو تنبيها، لكن ما هو غير مقبول ألا ينتصب القاضي كحكم بل أن يتصرف كطرف أو كخصم، والسيد السعداوي تصرف في هذه القضية كخصم، حيث لم يأخذ بالمدفوعات الشكلية وكلها جدية، ولم يستمع إلى الشاهد الذي طلبناه دون مبرر مقنع، ولم يطلب رأي مكتب الصرف في الوثيقة التي عرضت عليه من بنك خاص يشهد شهادة عائمة حول تحويلات لم تخرج من المغرب، ولم يأخذ بكل الدلائل والوثائق التي عرضناها عليه، واتجه إلى الأقصى في كل شيء: الحبس، والتعويض الخيالي، وكأني به لا يصحح خطأ، على فرض وقوعه، بل يهدم بيتا وجريدة ومقاولة… ما معنى الحكم ب160 مليون سنتيم كتعويض؟ ما معنى استعمال عقوبة حبسية حول مقال رأي؟ هذا له معنى واحد.. تخويف الصحافيين من الاقتراب من الموضوعات الحساسة. إذا كان جل القضاة قد تربوا على الخوف، فنحن لم نتربَّ عليه، فهي، إذن، قضية تربية وثقافة ومسلك في الحياة. في أحكام جل القضاة الذين ينتصبون للحكم في قضايا الصحافة لا يوجد فهم عميق للمهنة ولا بخصوصيتها ولا لقانونها وفقهه، ولا لاجتهادات القضاء في الشرق والغرب بشأنها. للأسف الشديد، يُدفع بالملفات إلى قضاء غير مختص وإلى قضاة لا يؤمنون بدور للصحافة في هذا العالم، يرددون جملة قالها شرطي لصحافي في الفرقة الوطنية للشرطة القضائية يوما: «المغرب يمكن أن يمشي بلا صحافة لكنه لا يمشي دون أمن». أنا أشفق على السيد السعداوي، بعد 10 سنوات أو عشرين سنة أو أكثر سيترك لأبنائه تركة فيها هذا النوع من الأحكام البعيدة كل البعد عن العدالة والمنطق وروح العصر، ودور القضاء الذي يحمي الحريات، ويمنع السلطة وفيلتها من دخول بيت الصحافة الهش… هذه هي القصة، الباقي لا قيمة له.. إذا كانت هذه الجريدة مزعجة فأغلقوها وسيفتح آخرون جرائد أخرى، لكن هل ستوقفون الربيع بقطف كل أزهاره؟