فيها رجل السياسة ومسيّر الشأن العام ورجل الأمن النزيه والمرابي والسمسار واللص والمجرم والمرأة الصالحة والأسرة الممزقة. ليل مدينة الدارالبيضاء مغرٍ وخطر، وبقدر ما يتيح لك اكتشاف وجه المدينة الآخر، بقدر ما يطرح بجدية غياب الفضاءات الليلية، بعيداً عن البارات والملاهي، فضاءات تصلح للعائلات، ولمن يريد الكتابة والقراءة، أو لمن هجره النوم حتى، وأراد أن ينزوي في ليل هذه المدينة غريبة الأطوار. تصلح مدينة الدارالبيضاء أن تكون موضوعاً دائماً للكتابة، موضوعاً لا ينضب، لأنها مليئة بالظواهر الاجتماعية والبشرية، ولأنها تصبح وتمسي على الجديد كل يوم. تشبه كل المدن الكبرى في العالم، من المفروض أن تزدهر فيها حياة ثقافية وفنية وأدبية، أن تكون فيها سينما قوية وكتّاب كبار وموسيقيون وتشكيليون من عيار ثقيل، وأن تكون بالفعل مدينة تنتج أكثر مما تدمر، وتمنح أكثر مما تحرم، مدينة للفكر الحر. كل هذا وغيره تقدمه مدينة كبيرة ومليونية، لكن حين تكشف قناعها يبدو جليا وجهها الممزق. في الدارالبيضاء، كل يغني على ليلاه، تتحول شيئاً فشيئاً، لتصبح مدينة بلا ذاكرة ولا هوية. بعض الذين يريدون الحفاظ على ذاكرتها يعتقدون أن تلك الذاكرة مجرد بناية أو حجر، والحال أن الأمر غير ذلك، يتجاوز المكان إلى أهله وساكنيه وقاطنيه. السؤال نفسه الذي يطرحه بيضاوي حول هوية مدينته، يطرحه في الطرف الآخر مواطن مصري يعيش في القاهرة، حول معنى أن تكون قاهرياً اليوم، في مدينة لا تعرف لها مخرجاً ولا مدخلا، تدوّخك بحركتها، وتتركك مثل حجر صغير مرمي في الطريق. لو قارنّا القاهرةبالدارالبيضاء، على أكثر من صعيد، لتوقفنا عند مفارقاتٍ كثيرة، منها أنه يلزمنا الكثير لكي نجعل من هذه المدينة تعني شيئا بالنسبة للذين يعيشون فيها. وشئنا أم أبينا، فإن الإقامة في هذه المدينة قدر لا مفر منه، والنضال اليومي يجب أن يكون في اتجاه تحسين حياة البشر هنا في هذا المكان. أتساءل، اليوم، عن الفضاء الأخضر في مدينة مليونية، عن أين سيلعب أطفالنا، وأي ذاكرة ستكبر لديهم، وماذا سيعني لهم أن يكونوا أبناء الدارالبيضاء، في وقتٍ تتفكك هذه المدينة، وتتحول إلى كومة حجر لا تعني شيئا. الدارالبيضاء تشبه، بالنسبة للمتشائم، مجرى هادراً لمياه الواد الحار، ينفجر على العموم، ولا يوقر السيقان الجميلة الملفوفة في الحرير، ولا الأرجل الحافية التي تكد من أجل الخبز وحده. الواد الحار الذي ينتقم، أحياناً، على طريقته من التفاوتات الاجتماعية، فيفيض على الفيلات الواسعة حاملا بول الفقراء. فالفقراء ليسوا حزاماً انتخابياً لأصحاب السعادة، بل هم أيضاً مصدر «ثروة» حقيقية، تعزز منسوب الوادي الحار، قبل أن تتحول إلى تعزيز منسوب الجريمة والحقد الطبقي، إذا ما استمرت مدينة، مثل البيضاء، تفرز التفاوتات، وتنمي العداء أكثر مما تنمي المحبة. وحين توضع الأصابع في الآذان، ويهرب من يشرف على أمور المدينة إلى الأمام، تتحول التجربة البيضاوية إلى كابوس. ألم يحدث ذلك على مدار تاريخ هذه المدينة؟ وماذا إذا خرجت مدينة، مثل الدارالبيضاء، إلى الشارع، هل تستطيع أن تعيدها إلى البيوت والغرف؟ هذا هو السؤال الجوهري لمدينة تكبر بلا روح، تتوسع، لكنها تأكل كل يوم نفسها، تتمدد، لكنها لن ترحم قتلتها وناهبيها. وسيأتي من يطالب بدمها، ومن يتقصى في من قتل السيدة البيضاء أو مادموزيل بلونش نيج؟ قل لي ما هي مدينتك، أقول لك من أنت؟ قد يبدو هذا صحيحاً في حالة المدن وحيواتها، وبشرها الذي تقولبه. وحين تموت المدينة، يموت الإنسان والفكر الحر ومنتجات الفعل الديمقراطي، وتتحول إلى غابة، يقتتل فيها البشر بلا رادع أخلاقي، حتى وإن كانت الدبابات منتصبة في الشارع. من أنت؟ وما هي مدينتك؟ تلك هي بعض وشوم شخصيتك، تلك الشخصية المتشابكة مع قدر المكان في الزمن الموحش. من أنت؟ أنت على قدر عطاء مدينتك وعاطفتها وجبروتها وانهياراتها. وحين لا نقرأ طالع المدن، تنهار السقوف على ساكنيها. هكذا علمتنا المدينة اليونانية، على الأقل. شاعر وصحافي مغربي عن «العربي الجديد»