جرأة كبيرة تحلى بها عمدة الرباط، فتح الله ولعلو، وعمداء عدد من المدن الفاشلة في المغرب، وهم يخطبون، في حفل افتتاح القمة الرابعة للحكومات المحلية والجهوية، أمام عمداء مدن مثل باريس وطوكيو ولندن ونيويورك ومدريد وسيدني ودبي... الخيمة التي نصبت لاحتضان فعاليات المؤتمر وسط فندق فرنسي تبدو جميلة، لكن لا علاقة لها بالمدينة الكئيبة المظلمة المسماة الرباط، التي لا يوجد فيها سوى فندقين من فئة خمس نجوم معلقة على أبوابها، فيما غرفها وخدماتها تحتاج إلى «برنامج استعجالي» لتصل إلى أضواء الخمس نجوم... أستطيع أن أجازف وأقول إن استقبال قمة عالمية حول الحكومات المحلية والجهوية بالمغرب يشبه تنظيم مؤتمر حول البحار في دولة لا تطل على متر واحد من البحر، أو استضافة مؤتمر حول اقتصاد الطاقة في قرية لا كهرباء فيها. سيصبح الأمر بمثابة «كاميرا كاشي» أو حوار الطرشان. في بلادنا لا توجد حكومات محلية ولا جهوية ولا إدارة مدن حديثة، ولا مدن بالمعنى الهندسي أو العمراني والثقافي للمدن... هناك تجمعات سكنية وبيوت إسمنتية وأسواق ومتاجر بعضها عصري وجلها بدائي... بدون رؤية ولا فلسفة... هذه التجمعات «الإسمنتية» تحكمها السلطة غير المنتخبة بواسطة أشباه لممثلي السكان، يخوضون حربا ضروسا في الانتخابات الجماعية ليخدم جلهم مصالحه الذاتية، أو ليوفر قاعدة انتخابية في الجماعة لدخول البرلمان... فيما السلطة الحقيقية في يد الوالي والعامل وأعيان المدينة وأغنيائها... المدن اليوم في المغرب اسم بلا مسمى، صناديق بطبقات مغلقة، للفقراء أحياءهم وشوارعهم وحاراتهم وللأغنياء ضواحيهم وفنادقهم وطرقهم التي تنقلهم عادة إلى المطارات لا إلى عمق المجتمع بعشوائياته المنظمة في شكل بنايات أو غير المنظمة في شكل دور للصفيح، وبين القاعدة العريضة للفقراء والقمة الحادة للأغنياء تضيع الطبقة الوسطى بين الاثنين. البشر أشتاتا لا يجمعهم سوى اسم جغرافي يطلق مجازا على مدن لا تمتلك مقومات المدن، هذا مشهد وليس مدينة. مدننا بلا ذاكرة ولا تاريخ ولا تقاليد ولا حكاية، جردتها السلطة في بحثها عن السلطة من كل أثر للمدينة الحديثة كفضاء ثقافي أولا وسوسيولوجي ثانيا محكوما بقواعد ديمقراطية وخصائص جمالية. مدننا فقيرة من كل شئ وفقيرة لكل شئ. إذا لم تصدقوني، فما عليكم إلا أن تعاينوا الواقع بأعينكم، ولا تتجهوا إلى مدن المغرب غير النافع في الشرق والغرب والشمال والجنوب، بل جربوا أن تكذبوا إشاعة المدن الفاشلة هذه في الرباط والدار البيضاء، حيث مازال السكان يركبون البغال والحمير للوصول إلى أماكن عملهم، وابحثوا عن عدد الأحياء التي لا تتوفر على إنارة، وبعضها في قلب المدينة لا في ضواحيها. ابحثوا عن كمية الأزبال التي تغطي الشوارع. ابحثوا عن رقم معاملات «الفراشة» الذين يعرضون أكوام السلع الصينية الرخيصة أمام البرلمان وفي شوارع محمد الخامس والحسن الثاني ومحمد السادس وكل ملوك ورموز البلاد وتاريخها. جرب أن تبحث لأطفالك عن حديقة يلعبون فيها قريبة أو بعيدة عن مسكنك، ودائما في الرباط والدار البيضاء. لا أتحدث عن المغرب المنسي، فتلك قصة أخرى. جرب أن تبحث عن مكان تحرق فيه السعرات الحرارية مشيا أو جريا. جرب أن تبحث عن مظاهر للثقافة والفن والرسم والنحت والسينما في مدينتك. جرب أن تبحث عن حافلة عمومية نظيفة ومكتملة النوافذ الزجاجية لتركبها قاصدا وجهتك. جرب أن تبحث عن «طاكسي» محترم ونظيف بمقاعد تصلح لأن تضع عليها مؤخرتك دون أن تخشى شيئا... جرب أن تخرج في الليل لتشم الهواء دون أن تجد نفسك أمام قاطع طريق أو بائعة هوى تعرض جسدها الذابل في سوق بارت منذ مدة... دعك من كل هذا الترف.. جرب أن تستقبل سائحا أجنبيا في مدينتك، وعدد الأماكن التاريخية والمنتوجات السياحية التي تستطيع أن تريها لضيفك... ستشعر بالخجل الذي لم يشعر به ولعلو والأزرق والعماري وبقية الجالسين في منصة افتتاح مؤتمر الحكومات المحلية.