حتما سيتغير وجه القارة العجوز، بعد هذه الموجة الجديدة من الهجرة. لن تعود أوروبا كما كانت، هي التي ألفت التغني بحقوق الإنسان والانتصار لقيم العالم المتحضر. وفي الظن، أنه إذا استمر العالم العربي على هذه الحال من الاحتراب الطائفي ومن النزوع الدموي، فإن هذه الهجرة لن تكون الأخيرة، وربما سيدفع اليأس من قيم العدالة والديمقراطية في «بلدان المنشأ» مواطنيها إلى الإمعان في الاتجاه غربا، هناك وإلى أبعد نقطة من هذا الكوكب المظلم بحثا عن أمان مفقود. يهرب العربي اليوم، مهزوما، ليس بفعل الحرب وحدها، بل بمفاعيل أخرى، حيث تنتصر القيم التي تجر إلى الوراء على قيم التقدم، ويتغلغل التخلف الموزع على تقاسيم الدعوات الحمقاء والمجنونة إلى فوضى لم يعهدها الإنسان العربي على مدار تاريخه، قوامها القتل على أساس المذهب أو الطائفة، وردم كل صلة بذلك الماضي المشرق للعرب والمسلمين يوم امتزجوا وذابوا في آخرين، دون أن يشكل هذا مصدر تهديد لهويتهم. فما عساها تكون الهوية الممرغة في المهانة، والملطخة بوحل الحط من الكرامة، والمغموسة في الماء الآسن لاستعباد البشر وجره بالسلاسل المادية والرمزية إلى أزمنة العبد والسيد. لكل ذلك، يهرب العربي، برا وبحرا، واقعا وحلما، يهرب من ذاكرته ومن ماضيه ومن حاضره البائس، لعله يجد بشارة ما تنجيه، لعله يقطع مع هذا القدر الأعمى في جغرافية لا ترحم. يهرب دون أن يلتفت إلى الوراء، لأنه يعرف حقا أن ما تبقى ستكمله نيران الحرائق على أتم وجه، وسيمعن الديكتاتور الذي تلبس ألف قناع في افتراع تلك الكرامة المجروحة. وأما وجه القارة العجوز فسعيد اليوم، لأنه يستقبل كل هذه الحشود الجميلة، وكل تلك السواعد القوية، هبة من «ملك الحرب» إليه، كي يجدد سلالته ويدفئ فراشه البارد. هنا في هذه المزارع البشرية، سيجد العربي الهارب من أقدار بلاده ملاذه الأخير، سيهجم الحنين في أيام الإقامة الأولى، لكنه مع الأيام سيتدلى بلا أمل في عودة «لا تغتفر». صحافي وشاعر مغربي عن «العربي الجديد»