خلال «مائدة مستديرة» في باريس، سمعت كاتبة لبنانية تشكو من قلّة اهتمام الفرنسيين بالأدب العربي. نحن نقرأ ما يكتبون، نعرف أدبهم، بينما هم يهملوننا، قالت ساخطة من هذا التفاوت الصارخ. إنها في العمق حكاية حبّ غير متبادل، قصّة غيظ غرامي: العرب مفتتنون بالفرنسيين، لكن هؤلاء لا يأبهون بهم، العرب يُعطُون لكن، بلا مقابل. وبحنق غير مكتوم أشْهَدَت الكاتبة الجمهور على نكران الفرنسيين للجميل. خِلت نفسي، حينئذ، في مسرحية لرَاسِين: «عملت كل شيء من أجلك، لكنك ترفضني، وتشيح بوجهك عني». قد يتمرّد الأديب العربي على هذا الوضع فيدّعي أنه متفوِّق (معرفياً) على قرينه الأوروبي. أليست له، في الغالب، لغة «زائدة»، أدب إضافي؟ وقد يتساءل: أليست لي ميزة معرفة الآخر، بينما الآخر لا يعرفني؟ ألا يعاني من نقص، لمجرّد أنه لا يعلم شيئاً عني؟ لكنه عزاء تافه. في سياق مماثل، أقام كاتب بولوني، كازيميرس برانْدي، موازنة بين الطالب الفرنسي والطالب البولوني: «للطالب الفرنسي نواقص في الثقافة العالمية أكثر من الطالب البولوني، إلا أن ذلك يجوز له، لأن ثقافته الخاصّة تتضمّن- إن قليلاً أو كثيراً- كل إمكانيات وكل مراحل التطوّر العالمي». الاختلال في العلاقة يولِّد رغبة جامحة في اعتراف الآخر بي؛ ما يمكن تفسيره كطموح في تجاوز الإطار القومي والاندماج في الإطار العالمي، أو- كما يقول ميلان كونديرا في كتابه «السِّتار»- «العزم على الانتقال من السياق الصغير إلى السياق الكبير». كُتّاب أمريكا الجنوبية ينعمون برفاهية السياق الكبير، بينما الكتّاب العرب يراوحون، في الغالب، في السياق الصغير. كان هذا، إجمالاً، إحساس الكاتبة اللبنانية الآنفة الذكر. إذا كان الفرنسيون لا يبالون بنا، وإذا كانت لهم غراميات أخرى.. طيّب، سوف نمنحهم، مع ذلك، فرصة للاعتراف بنا، سنرغمهم- بمعنى ما- على أن يقرؤونا، سنقدِّم لهم أدبنا بلغتهم: إما مباشرة بالكتابة بها، أو بأن نقوم نحن بترجمته. وهكذا لن يكون لهم عذر أو مسوِّغ لتجاهلنا. وفي هذا الصدد قدَّمت دراسة جامعية قريبة عهد إضاءةً مفيدة لهذا الجانب (فاتحة الطايب، «الترجمة في زمن الآخر»، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2010). يتكوّن متن الدراسة من روايات مغربية قليلة في الواقع، لا تتعدّى العشر، مكتوبة بالعربية ومترجمة إلى الفرنسية. تسجِّل الباحثة الاهتمام الضعيف لدُور النشر الفرنسية بالإبداع السردي المغربي، وتؤكِّد أن المؤلِّف نفسه، أو وسيطاً مغربياً، يقوم -عادةً- بالتعريف به. وعلاوة على ذلك، فإن أغلب الترجمات من إنجاز مغاربة: «الخبز الحافي» لمحمد شكري، ترجمه الطاهر بنجلون، «لعبة النسيان» لمحمد برادة، نقلها عبد اللطيف غويرغات (بالاشتراك مع إيف غُونزاليس كِيخانُو)… ولا يقتصر الأمر على الترجمات بالفرنسية، بل يتعداه إلى الإسبانية، يقوم بها، في الغالب، مغاربة. لمن؟ للفرنسيين؟ للإسبانيين؟ لا، للمغاربة. وللتدليل على هذا، تطرّقت الدراسة إلى مسألة النشر المشترك الذي يتيح اقتناء المؤلَّفات بثمن معتدل. حين يعاد، في الرباط أو في الدارالبيضاء، نشر كتاب مغربي ظهر في فرنسا، فإن القارئ المستهدَفَ هو- أساساً- القارئ الفرانكفوني المغربي. وهكذا فإن مغاربة يترجمون مؤلَّفات مكتوبة بالعربية، وينشرونها لمغاربة: بضاعتنا رُدّت إلينا! يكتب مؤلِّفون بالعربية، ويتوجَّهون إلى القراء، إلى مواطنيهم، بواسطة لغة أجنبية، لغة تمنحهم شرعية، بل أكثر من ذلك: تهبهم -بمعنى ما- الوجود. إنها تقود اللعبة إلى النهاية، لعبة مرايا، تأكيد الذات عبر اللغة الأجنبية. يمكن ملاحظة هذا في جلّ البلدان العربية. صحيح أنها ظاهرة لا تقتصر على العالم العربي؛ فبورخيس- على سبيل المثال- صار معروفاً في العالم أجمع، وحتى في بلده، منذ أن تُرجِم إلى الفرنسية، لكنها -حسب الظاهر- حديثة النشأة في العالم العربي، وربّما تفاقمت منذ مَنْح جائزة نوبل لنجيب محفوظ سنة 1988، تاريخ بداية الاهتمام الأوروبي بالإنتاج الأدبي العربي. منذ ذلك الحين استحوذت رغبة الترجمة على العديد من الكتّاب العرب، رغبة لم تكن، فيما قبل، مسألة ذات أهمّيّة قصوى، لم تكن- على الأرجح- الشغل الشاغل لطه حسين، وتوفيق الحكيم، ويحيى حقي، ولا حتى نجيب محفوظ؛ ذلك أنه كان لهؤلاء قرّاء، وكانوا معترفاً بهم في لغتهم، ولم يكن لهم كبير مبالاة بترحيل كتاباتهم إلى لغة أجنبية. لا حظ كافكا، في «يومياته»، أن أُمَّة صغيرة تُكِنّ احتراماً كبيراً لكُتّابها، تعدّهم موضوع فخر «أمام العالم العدائي الذي يحيط بها». فيما مضى كان العرب يُجِلّون كُتّابهم، ويفخرون بهم. بالأمس القريب كان لديهم الشعور ذاته. هل هذا هو حالهم اليوم؟ * عن «الدوحة»