نحن في سنة 1976. الحياة السياسية بالمغرب في مرحلة تحول وإجماع حول مبدأ الوحدة الترابية، بعد عملية المسيرة الخضراء الكبرى، التي خاضها المغاربة بتوجيه من الراحل الحسن الثاني لاسترجاع الصحراء من السيطرة الإسبانية. كنت في طليعة من شارك في المسيرة، وأنا إلى جانب وظيفتي بالتعليم العالي، عضو تحرير جريدة «المحرر»، لسان الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. موقعي هذا أكسبني بالتدريج دُربة صحفية، غذّت شاغلي الثقافي والأدبي الأساس. كان المرحوم الشهيد عمر بن جلون قد أوفدني سنة 1975، قبل طعنة الغدر إلى نيويورك، ملاحظا ومراسلا لنقل مداولات اللجنة الرابعة للأمم المتحدة المخصصة لقضية الصحراء، في فترة مفصلية، فعدت منها، أحسب، بتجربة مميزة، خبرة مزدوجة بين عمل كواليس السياسة الدولية والصحافة المحترفة. أحتاج إلى هذا مدخلا لا غنى عنه لرصد ورسم خط العلاقة بيني وهذا العلم الكبير، يقع في قلب الدائرة الوطنية، المفرغة اليوم. في السنة الموالية، باقتراح وتزكية من المناضل الاتحادي الكبير، صديقي الراحل مصطفى القرشاوي، الذي كان عمليا بمثابة رئيس تحرير المحرر، ذهبت إلى الجزائر للمشاركة في المؤتمر الخامس لاتحاد الصحفيين العرب، إلى جانب المرحوم الأستاذ محمد العربي المساري، بصفته الصحفية المعلومة، ممثلين للنقابة الوطنية للصحافة المغربية، وضمنا لأهم حزبين وطنيين في الساحة المغربية. لم تكن لي من قبل علاقة مباشرة بمن سنسميه في ما بعد، نحن بعض أصدقائه والمقربين، إليه، «خاي العربي» على الطريقة التطوانية، هو من تعلم وترعرع في تطوان، قبل أن ينتقل إلى الرباط. كنت أزور العاصمة قادما إليها من الدارالبيضاء لألتقي بزملائي وأصدقائي الأوائل في كلية الآداب، تفرقت بنا السبل بعد التخرج، وجلهم بالرباط، هنا حيث النشاط الثقافي الحقيقي، وغليان الأفكار وحيوية اللقاءات ومشتل تفتح المواهب ورعايتها، وُجدت في جريدة «العلم»، وبرعاية الأديب الراحل عبد الجبار السحيمي الراعي والحادب بأريحية لا نظير لها، خصوصا حول مائدة ملحق «العلم الثقافي»، كان نشر نص أدبي فيه بمثابة ميلاد شاعر عند القبيلة في العصر الجاهلي. كنت واحدا ممن يهذون بالأدب، مؤلف مجموعة قصصية، عضوا في مجموعة ومجلة «أنفاس»، الأدبية تحديدا وأطمح كأبناء جيلي بتجربة متمردة لإبداع مغاير، ومرفود بنزعة سياسية واضحة، نسغها ومسارها أيضا من المجال الإيديولوجي التقدمي والاتحادي خاصة، طلابيا وسياسيا وثقافيا. وكان علينا أن نخوض المعركة الثقافية في جبهة محددة هي اتحاد كتاب المغرب، وهي المعركة التي خضناها مع حلفائنا لتلك المرحلة من حزب الاستقلال في وجه سدنة الرجعية السياسية والثقافية، وكان المضمار هو المؤتمر التاريخي لاتحاد كتاب المغرب الشهير، المعروف بمؤتمر مدارس محمد الخامس بالرباط. أذكر هذا لا للتباهي، وهو تاريخ مضى بما له وما عليه، وإنما لأن هذا المؤتمر الذي كان من فرسانه وقادته الكبار أستاذنا الزعيم المرحوم علال الفاسي، أسفر بعد معركة ضارية فعلا عن تجديد ولاية الأستاذ عبد الكريم غلاب، أطال الله في عمره، رئيسا للاتحاد وانتخاب مكتب أعضاؤه الراحلون أحمد المجاطي، عبد الجبار السحيمي، محمد العربي المساري، ومعهم محمد بنيس وكاتب هذه السطور. يُعرف المرحوم المساري ويقدم في بيوغرافيته إعلاميا بالدرجة الأولى إلى جانب المهام السياسية والدبلوماسية التي تقلدها وأبلى فيها البلاء الحسن باقتدار وكرامة، لكن الرجل بدأ أديبا، وإن محتشما، وكتب قصصا ومحاولات أدبية نيرة، وأهم ما ينبغي تدوينه في هذه السيرة أنه أسس مع محمد برادة وعبد الجبار السحيمي وعلى أومليل في مطلع الستينات «مجلة القصة والمسرح»، صدر منها ثلاثة أعداد وتوقفت في متم سنة 1963 لأسباب مالية. جاء انتخاب المساري، إذن، في المكتب التنفيذي لاتحاد كتاب المغرب، في أخطر فترة من تاريخ هذه المنظمة، سياسيا وثقافيا، طبيعيا ومنسجما مع مؤهلاته، شأن باقي الأعضاء، وليس بناء على حيثية إيديولوجية أو نظرا لموقعه المركزي في حزب الاستقلال، وجريدة «العلم»، بالذات. ونظرا لصعوبة المرحلة، ولوجود بعض الاحتدام الإيديولوجي، أيضا، في جو مكتبنا، رغم حكمة الأستاذ غلاب، فإن اجتماعاتنا بقيت محدودة، فضلا عن أننا لم نملك شروي نقير ميزانية وبسبب هذا الجو المحتدم، وظروف عمل الاتحاد الحرجة، لم يحضر الأستاذ المساري اجتماعاتنا إلا لماما، يحرص على عدم الاشتباك في فتننا الداخلية، كان المرحوم المجاطي وعبد ربه وقودها المستعر، ويوزع لطفه على الجميع، بدماثة معهودة، مسالما، أقرب إلى الحياد، أحسب أن همّه كان في مكان آخر. في الحقل الإعلامي بالدرجة الأولى، ضمن العمل السياسي لحزب الاستقلال بطبيعة الحال، أولا، وأبعدَ في الأفق القومي، والامتداد الإفريقي، والبُعد الإيبيري الأجنبي، كما ستثبت الأيام. لذلك فإني، وسواي من شُداة جيلي، لم نكن نلتقي بخاي العربي إلا صدفة، فكأنه دائما يفضل البقاء وراء حجاب، ولمحيط مرسوم لديه بدقة وانتظام الإعلام وخباياه مركزه، نحن الفتية النُّجُبُ، صعاليك ذلك الزمان، في هامشه. صاحبنا وملاذنا حين نطرق «العلم»، والرباط، عبد الجبار، هو الحضن والجود يمد الخوان للإخوان، ويتفرس في الوجوه والنصوص ليقطف أينع الثمار، لمدرسة العلم الثقافي، ولليالي اللواتي، حين «الرفاق حائرون، يفكرون، يتساءلون، في جنون»، وهو يكمل المقطع من جوف حنجرة عبد الحليم، مترنحا كالمجنون: «حبيبتي أنا من تكون؟». سنة 1976، كما أسلفت، أتيحت لي الفرصة الأولى، الذهبية، للتعرف على الراحل المساري، في حلبة الشرف حقا، خدمة الوطن، وبصدق وتفان ما عاد له اليوم نظير. ركبنا الطائرة سويا من مطار النواصر باتجاه الجزائر العاصمة، ومن مطار الدارالبيضاء (قبل أن يحمل اسم هواري بومدين) وقصدنا مباشرة قصر الصنوبر في الضاحية الساحلية الغربية للعاصمة. هنا حيث الإقامة ومقر المؤتمر. كانت لي معرفة سابقة بهذا البلد، عرفته مدرسا، وخبرت أهله وطباعه، كما أعرف هذا المكان، زرته سنة 1974 لتمثيل اتحاد كتاب المغرب، رفقة الأستاذ غلاب في مؤتمر اتحاد الأدباء العرب، أيامها كان يوسف السباعي أمينه العام. جئنا لنشارك في المؤتمر الخامس لاتحاد الصحفيين العرب، وأمينه العام يومئذ المصري كامل زهيري. كنا نعلم أننا سنتحرك فوق رمال حارقة، وأن هذه الدورة بالذات تختلف عن سابقاتها، سيزداد أوارها، لا حول القضية الفلسطينية المصيرية، وحدها، كالمعتاد في أي لقاء عربي، بطبيعة التوصيات والمزايدات حولها، وإنما إلى جانبها، ما كان يسمى وقتئذ، وحسب اصطلاح الأممالمتحدة ب»نزاع الصحراء الغربية». بعبارة أخرى، كنا معا على وعي تام بأننا نصل إلى أرض «معادية» لطموح بلادنا في وحدته الترابية، بعد أن أصبحت الجزائر طرفا معاديا جهيرا في المحافل العربية والدولية لهذه الوحدة، وسجلت بنفسي أمام اللجنة الرابعة الأممية المرافعة العنيفة التي قدمها محمد البجاوي القاضي والخبير القانوني الجزائري يناهض فيها المطلب المغربي، ويدافع عن أطروحة تقرير المصير (كذا). بدأت أشغال المؤتمر، ومن الساعات الأولى انتبهنا من الكواليس، أهم ما في المؤتمرات، أن الرهان الجزائري من وراء هذه المناسبة، مُنصبٌّ على توجيه دفّة الحوار والمداخلات فيه لنصرة ما يسمى ب»الشعب الصحراوي»، وتأييد أطروحة الجزائر حول تقرير المصير. كان الراحل المساري، بحكم تجربته السياسية، وحنكته الصحفية الطويلة، أقدر مني بطبيعة الحال، وأعرف بهذا المحفل وكيفية التعامل مع الموقف، ورغم أني أسلست له القياد حرص على أن يشركني معه، ويسندني به في كل المشاورات التي أجرينا والحوارات مع الزملاء العرب لإقناعهم بحق وحدة المغرب الترابية ومناهضة أطروحة الخصوم. لم يكن ذلك سهلا بتاتا، فقد نزل الإخوة الجزائريون إلى مؤتمر يُفترض أنه مهني ولمعشر الصحفيين، بكل ثقلهم السياسي وغيره، أيضا. رأينا والتقينا الأمين العام لجبهة التحرير الوطني السيد شريف مسعدية، الرجل الثاني بعد الرئيس بومدين، يتحرك في الكواليس، ويستقبل ويحاور، وعلمنا أنه يعِد ويُغري، كما التقيت بأطر من جبهة التحرير، كانت لوالدي علاقة بهم أيام منفاهم بالدارالبيضاء، وصاروا في مواقع مسؤولية، ظهر عليهم الحرج رغم أنهم لم ينكروا طبيعة مسعاهم. تابعت العربي ورافقته وهو يقارع ويسند ويجادل دائما بالتي هي أحسن، في مناخ جله معاد لنا في الحقيقة، خاضع للابتزاز الجزائري بأنواع، ويعلم الله، في كل جلسة، كنت أتعلم من الراحل درسا في عمق الوطنية والتشرب بروحها، وعقلانية الدفاع عن سيادتنا. ما أثمر أخيرا إقناع المؤتمرين بإبعاد أطروحة الخصوم، وأن لا ينص عليها البيان الختامي بأي شكل، وبالمصادقة العامة. لكن، فوجئنا وقد صعد ممثل وفد الوفد الجزائري المكلف بقراءة البيان يدس فيه فقرة لا علاقة به ولم يوافق عليها أي طرف تعبر عن تأييد المؤتمرين لأطروحة الانفصال والشعب (كذا).. وهنا، ما زلت أذكر كيف وقفنا معا وصرخنا في آن واحد بأن هذا كذب وتدليس، وزور مدسوس على البيان، وأعلننا أمام الملأ انسحاب المغرب، وكامل زهيري الأمين العام للاتحاد يسقط في يده، والوفود تستنكر، وشريف مساعدية نفسه ينبري لتهدئة الجو، ولكن المساري رحمه الله واجهه بشجاعة ووطنية فارس لا يشق له غبار، وهذا تذكير لمن يتاجرون هذه الأيام في الوطن، بأي ثمن. كاتب