في الوقت الذي تنكب فيه وزارة التشريفات والأوسمة والقصور على الإعداد لعيد العرش رقم 16 لتولي الملك محمد السادس الحكم سنة 1999، أثار عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة والأمين العام لحزب العدالة والتنمية، النقاش مجددا حول الطقوس المخزنية، التي تؤثث حفل الولاء السنوي بين الملك وكبار مسؤولي الدولة ورجالاتها، مدنيين وعسكريين. حصل ذلك في أمسية رمضانية نظمتها مؤسسة الفقيه التطواني، أخيرا، حيث دافع بنكيران عما اتهم به من تناقض، بين دعوته عندما كان في موقع المعارضة سنة 2011، بإدخال تعديلات على حفل الطقوس المخزنية، وحديثه بعد ذلك عن عمق معين لتلك الطقوس. لكنه فاجأ سائليه قائلا: «لم أغير رأيي، مازلت مقتنعا بضرورة مراجعة تلك الطقوس، لكن بشرط أن يتم ذلك بتوافق مع جلالة الملك». إنها أول مرة يجرؤ رئيس حكومة مغربية على المطالبة بإلغاء أو تعديل منظومة طقوس تعتبر بمثابة «الكنه الغريب والغامض للسلطة»، حسب المؤرخ والسياسي المعطي منجب. لقد اختار بنكيران الاصطفاف إلى جانب طيف واسع من المثقفين والشباب، علمانيين وإسلاميين، يطالبون، بإلحاح، منذ تولي محمد السادس مقاليد الحكم، بإلغاء بعض من تلك الطقوس، خاصة تقبيل اليد والركوع للملك أو حتى الانحناء له، لما يرون فيها من تعارض مع قيم الكرامة الإنسانية والمساواة. بيد أنه رغم هذه الدعوات، فإن الملكية تبدو متشبثة بها قولا وفعلا. ففي سنة 2004، نشرت المجلة الفرنسية «باري ماتش» حوارا مع الملك محمد السادس جاء فيه قوله: «إن البروتوكول الملكي كان وسيظل بروتوكولا»، وبلغة حاسمة لا تقبل أي شك أضاف: «لقد أشيع أنني غيرت ما كان قائما بعض الشيء. هذا خطأ، لأن الأسلوب مختلف، غير أن للبروتوكول المغربي خصوصيته. وأنا حريص على المحافظة على دقته وعلى كل قواعده. إنه إرث ثمين من الماضي». كشف الملك محمد السادس في هذا الحوار مقدار الإصرار الملكي على الوفاء للتقاليد المرعية. الأمر الذي يبرر طرح السؤال التالي: ماذا تربح الملكية من الاحتفاظ بطقوس يعتبر بعضها حاطا بالكرامة؟ وما الذي تخسره في مقابل ذلك؟ الانتصار للطقوس أم للكرامة؟ بين مطالبة أول رئيس حكومة بتعديل البرتوكول الملكي خلال شهر رمضان الماضي، وإطلاق أول دعوة علنية من أجل الغرض نفسه، مرت 16 سنة. في هذا السياق، يُسجل عبد الأحد السبتي، وهو مؤرخ مرموق، أن ظاهرة انتقاد بعض الطقوس المخزنية برزت في منعطفات ذات حمولة سياسية معينة، إصلاحية مثل «حكومة التناوب»، أو احتجاجية مثل حركة 20 فبراير في مناخ انطلاق «الربيع العربي». حين أطلق الساسي دعوته، بتاريخ 7 غشت 1999، على صفحات جريدة الاتحاد الاشتراكي، كانت حكومة التناوب تعبر سنتها الثانية بصعوبة كبيرة، وفي ظرف حساس جدا، اتسم بانتقال الحكم من ملك قضى نحبه إلى ملك شاب ورث الحكم عن أبيه، ولم يمض أكثر من شهر فوق كرسي الحكم. لقد طالب تحديدا بإلغاء بعض مظاهر البروتوكول الملكي، وبالأخص تقبيل اليد والركوع للملك، بمبرر أنها ممارسات مهينة لكرامة الإنسان. لم يتقبل عبد الرحمان اليوسفي، الوزير الأول والكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي حينها، دعوة الساسي تلك. لقد اعتبرها مشوشة على علاقته ب«الملك الجديد الشاب»، رغم أنه هو نفسه لم يكن يُقبل يد الملك أو يركع له، إلا أنه بادر إلى الاعتذار إلى الملك، وفي الوقت نفسه طرد الصحافي الذي أجرى الحوار. قد يكون اليوسفي تعرض لضغوط من الحرس القديم في محيط الملك، وقد يكون فعل ذلك من تلقاء نفسه لإرسال إشارات الود بحثا عن «الثقة»، لكن يبقى أن تصريحات الساسي لقيت تأييدا واسعا، خاصة وسط النخبة، اليسارية منها والإسلامية سواء. وكانت لها نتائج على مواقف وسلوكات كثير من الفاعلين بعد ذلك. ففي يونيو 2002، استقبل الملك أعضاء المجلس الإداري للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، واتفق هؤلاء على تحية الملك باحترام لكن دون تقبيل يد الملك الشاب. كان اختبارا للطرفين في مرحلة جرى الحديث فيها كثيرا عن الانتقال الديمقراطي، وطي صفحة الماضي. انتبه العارفون بخبايا القصور والطقوس، فكان الرد عدم توثيق اللقاء، فلم تُنشر أي صورة فوتوغرافية عنه لحد الآن. رغم ذلك، بدا لاحقا أن الملك استمر في عدم التشدد في الإلزام بالبرتوكول كما كان يفعل والده، الحسن الثاني. تدريجيا، لم يعد الحضور إلى حفل الولاء مثلا في عيد العرش إلزاميا بالنسبة إلى المنتخبين، كما أن تقبيل اليد بات كثير من السياسيين يعوضونه بتقبيل الكتف في الغالب، أو حتى المصافحة يدا ليد مع انحناءة احترام لا أكثر. هذه الأشكال الثلاثة لتحية الملك تكررت أكثر من مرة، فعلى سبيل المثال عندما تم استقبال أعضاء هيئة الإنصاف والمصالحة في سنة 2004، حيى أعضاء الهيئة الملك كل بطريقته، بين من قبل اليد، ومن قبل الكتف، في حين كان هناك من صافح باحترام فقط. كل ما سبق يتعلق بالمدنيين فقط، كالعلماء والحقوقيين وناشطي المجتمع المدني، أما العسكريون من رجال الجيش وضباطه، أو رجال السلطة في وزارة الداخلية، وحتى النخب التقليدية التي ورثها الملك عن أبيه، ومنها مستشاروه، فقد استمروا في التحية بالشكل التقليدي العتيق: ينحني الرجل أمام الملك مرتين قبل الوصول إليه، وقد يركع أمامه، قبل أن يمكنه الملك من يده اليمنى، يقبلها مرة أو مرتين أو ثلاثا، ظاهرا وباطنا. «لا يمكن للعسكري أو المستشار أو رجل السلطة أن يتخلى عن تقبيل اليد»، يقول محمد الناجي، الأنتربولوجي والمؤرخ المختص، لأنه «يتصور أن تقبيل اليد تعكس حالة قرب ورضى»، وكلما مكنه الملك من يده للتقبيل أكثر من مرة، كان ذلك دليلا على الرضى. طبعا لا يعني ذلك أن العسكري أكثر احتراما للملك من المدني الذي لا يقبل يده، فكثير من جنرالات الحسن الثاني الذين كانوا يقبلون يده صباح مساء، وأدوا القسم بالوفاء له في قلب البيت الحرام في مكة، هم من أرادوا قتله سنة 1972. ولهذا رغم المرونة التي أظهرتها الملكية في ما يخص احترام التقاليد المتبعة في مخاطبة الملك أو تحيته، فإن الموقف الرسمي المعلن هو الوفاء لها. حين ارتفع الجدل حول الموضوع في سنوات الحكم الأولى للملك، عبر الملك عن موقف واضح بهذا الخصوص في حواره الشهير مع المجلة الفرنسية «باري ماتش» سنة 2004 قائلا: «البروتوكول الملكي كان وسيظل بروتوكولا»، ولكي لا يسيء أحد فهم التسامح المعمول به أكد بالقول: «لقد أشيع أنني غيرت ما كان قائما بعض الشيء، وهذا خطأ، لأن الأسلوب مختلف غير أن للبروتوكول المغربي خصوصيته». ومضى قائلا: «لقد وُلدت وترعرعت ضمن هذه التقاليد البروتوكولية، وهي تمثل جزءا لا يتجزأ من كياني، وخاصة من حياتي المهنية التي تظل هذه التقاليد مقرونة بها». كان موقف الملك واضحا، وجاء مخيبا لآمال أولئك الذين كانوا يأملون في إدخال تعديلات على تلك البروتوكولات. لكن النقاش استمر بعد ذلك، وهو يتجدد مع كل حفل ولاء. احتجاجات ضد حفل الولاء مع الحراك الشعبي العربي، واحتجاجات حركة 20 فبراير، سجلت عودة قوية إلى المطالبة بالتخلي عن تلك الطقوس، سواء على صفحات التواصل الاجتماعي (الفايسبوك)، أو في الفضاءات الميدانية للاحتجاج. ففي أوج الاحتجاجات التي عرفتها الشوارع، وقعت 166 شخصية، بينهم يساريون وإسلاميون وليبراليون، على بيان باسم «التغيير الذي نريد» في 30 مارس 2011، أي في أوج الاحتجاجات من أجل المطالبة بالإصلاح السياسي، تضمن فقرة تدعو صراحة إلى «إلغاء كافة المراسيم والتقاليد والطقوس المخزنية المهينة والحاطة بالكرامة». لكن الملكية لم تسمع شيئا من ذلك، ففي يناير 2012، وقع حدث طريف أثار جدلا قويا وسط الرأي العام المغربي، شاركت فيه قنوات مصرية وأردنية ومواقع اجتماعية عالمية. يتعلق الأمر بتدشين الحديقة الوطنية للحيوانات من قبل الأمير مولاي الحسن، ولي العهد، حيث حرص المسؤولون، المدنيون والعسكريون، بينهم كبار السن، على أداء طقس تقبيل اليد بكل عناية وانضباط. وفي ليلة عيد العرش لسنة 2012، أذاعت القناة الرسمية حوارا مع وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق، شبه فيه حفل الولاء السنوي ب«بيعة الرضوان» التي بايع فيها الصحابة الرسول (ص)، الأمر الذي أثار ردود فعل قوية رافضة، كان أبرزها التوقيع على «بيان الكرامة» من قبل 100 شخصية سياسية وثقافية وإعلامية، مرفوقا بعنوان دال: «من أجل إلغاء الطقوس المخزنية في المغرب». وهكذا، يبدو واضحا أن لعبة الشد والجذب، بين الرافضين للطقوس المخزنية والمدافعين عنها، مستمرة دون توقف. يدفع الرافضون بمبررات عقلانية تتحدث عن الحداثة والكرامة والمساواة أمام القانون، في حين يرى المؤيدون أن الأمر يتعلق بالمشروعية، وبالدين، وبالاتصال بالتاريخ. ماذا تربح الملكية؟ في كتابه «العبد والمملوك»، يشير محمد الناجي إلى كلمة سحرية يبدو أن الملكية، مثل أي سلطة، لن تقبل المس بها، وهي «الهيبة». يقول الناجي ل«أخبار اليوم» حول هذه المسألة: «ليس المشكل في التنازل عن تلك الطقوس والتخلص منها. المشكل بالنسبة إليهم أن قسطا من الهيبة سيضيع». يلخص الناجي، في كتابه، الهيبة في كلمتين: «الخوف والإعجاب». «تلكم هي الهيبة التي تعبر عن الإحساس المزدوج الذي يغمر الناس بمجرد التفكير في الملك. إنه الوجل الممزوج بالافتتان المتولد عن المشهد الخارق. ويدخل فيه التقدير والتعظيم والرهبة، مثلما هو الشأن في الإجلال، أي وقوف المرء أمام الإله. الإجلال هو الذي تتفرع عنه إحدى التسميات الكبرى التي تعبر عن العظمة الملكية، ألا وهي جلالة الملك». والهيبة هي أيضا، حسب الناجي، تلك الرهبة التي تتملك الناس بمجرد ما يتعلق الأمر بالسلطة، وهي نتيجة التهديد الحقيقي الذي تمثله السلطة، ونتيجة الاستعمال العلني والاستعراضي للعنف. «صحيح أن هذه الهيبة لا تشكل إلا أحد مظاهرها، غير أنه مظهر له أهميته. فاللغز الذي يحيط بالملك في تمثلات الناس، وكذا بروتوكول البلاط الذي يخضع له الزائر، عاملان يساعدان على ترسيخ الهيبة في الأذهان». تربح الملكية كذلك الانسجام مع القاعدة الاجتماعية المحافظة، وهي أوسع، أي الانسجام مع المجتمع. إن «الحفاظ على البرتوكول يعني الحفاظ على القوة، وفي الوقت نفسه الحفاظ على الصلة القوية بالقاعدة الدينية والقيمية والثقافية للنظام»، حسب المعطي منجب، المؤرخ والناشط الحقوقي. إن الأمر يتعلق في النهاية بالمشروعية التاريخية والدينية للنظام، يواصل تجديدها وتقويتها من خلال الحفاظ على التقاليد، خلال مناسبات معينة، مثل عيد العرش، وفي صلاة الجمعة، وصلاة العيدين، ومن خلال الاحتفاء بعيد المولد النبوي. يتعلق الأمر، على هذا المستوى، باعتقادات الناس وتصوراتهم حول شخص الملك، أي «الشريف» سبط الرسول (ص)، وخليفة الله في الأرض الذي يحكم بأمره وتعليماته، وحامل البركة، الذي تحميه قوى لامرئية، وبركته تفيض على كل شيء يتعلق به، ملابسه وأكله ونظراته وسكناته وكل صغيرة أو كبيرة تتعلق به. شخص بهذه المواصفات «يعتبر القرب منه مطلبا، وتعبيرا عن الرضى، وليس البُعد»، وتقبيل يده أو الركوع له، أو حتى تقبيل ملابسه، وحذائه، بل التراب الذي يمشي فوقه، يعني «إشارة حب». ترسخت هذه الاعتقادات طوال قرون، بفعل حركة الزوايا كذلك، وظاهرة الأولياء، كما ينبه إلى ذلك عبد الله العروي، ويبدو أنها تؤدي وظيفة فعالة في دعم شرعية الملك والملكية، من حيث أن كثيرا من الناس قد لا يقبلون القول بأن الملك يخطئ، أو أن السياسات التي يوقع عليها في مجال معين لا تستهدف المصلحة العامة دائما. وفي مقابل ذلك، يفضل كثير من الناس استهداف المحيطين به، من موظفين وحكومة ومستشارين، بدل توجيه النقد إليه شخصيا. وبذلك تضمن المكانة والنفوذ. وماذا تخسر؟ بالنسبة إلى الرافضين، تسيء الطقوس المخزنية إلى صورة المغرب في الخارج، أولا، فهي «تتنافى مع قيم العصر»، كما نص على ذلك بيان «الكرامة» لغشت 2012، ذلك أن طقوس حفل الولاء السنوي، بما فيها من ركوع، والتي تنقل عبر الإعلام العمومي، تحيل لدى أي ملاحظ خارجي على عهود تخلصت منها البشرية في كثير من أصقاع العالم. لكن الرافضين لتلك الطقوس لا ينطلقون من أرضية واحدة، فاليساريون والعلمانيون، حسب المعطي منجب، يعارضونها من مرجعية عقلانية تركز على «قيمتي الكرامة والمساواة»، والتي تعني أن التعاقد بين الشعب والدولة يأخذ في البلدان الديمقراطية شكل دستور ديمقراطي يزكيه الشعب عبر استفتاء حر ونزيه، بما يجعل منه عقدا يؤسس لشرعية النظام والدولة. وهي الطريقة الوحيدة لإثبات الروابط بين المواطن والدولة، في إطار احترام المواطنين لبعضهم البعض، بعيدا عن طقوس الإهانة. أما الإسلاميون، فلهم موقف رافض على أساس ديني فقهي، يعتبر أن الركوع والسجود لا يجوزان إلا لله. الله العفو والعافية».