انتظر الرئيس اليوغوسلافي تيتو ريثما ينتهي زميله الرئيس جمال عبد الناصر من خطاب حماسي تقاطعه الأناشيد والزغاريد وطبول النصر في هزيمة 1967، فهمس في أذنه قائلا: «فخامة الرئيس، يَنْقُصك قليل من الشعر الأبيض». وفي سياق آخر، ظل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين يكرر دائما: «قليل من المتحمسين يمكن الثِّقَةُ بِهِم» !! نحن أيضا ضحايا حركة المدّ الحريري الناعم، إذ ترافق منجزاتنا الورقية سيمفونية موسيقية صاخبة تزرع الضباب بِأَعْيُننا، والضجيج بأسماعنا، والترهات بِعُقِولِنَا، والغزل الكَاذِب بِقُلوبنا، فَنُصَابُ بعمى الألوان لنستفيق على أول حركة جزر واقعية نصطدم بها !! وقد ضَربْتُ لصَاحِبي مثالا عن المشهد الدرامي للنفق الرمادي الذي يمر منه الآن مشروع قانون المجلس الأعلى للسلطة القضائية، فقلت آسفا: «يا سيدي نحن نحاسب البَرْدَعَةَ وننسى الحصان، فالخلطة العجيبة الغريبة التي أعَّدَ بها الدستور المُسْتَعْجَل مَوَادّهُ، والأجواء الكرنفالية التي صاحبت الإصدار هي مربط الفَرس. وهُو الرأي ذَاته الذي جاهر به أحد المساهمين في إنجازه، وبَرَّرَ موقفه بقوله إن أسباب النزول لم تكن مُسْعفة». لنأخذ على سبيل المثال باب السلطة القضائية. بمقتضى المادة 115 من دستور 2011 أصبح الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية هو الرئيس الأول لمحكمة النقض، وقبل ذلك وحاليا، فإنّ وزير العدل هو من ينوب عن الملك في رئاسة المجلس الأعلى للقضاء، وهو رئيس النيابة العامة، وجميع المديريات تابعة له، ولكي ننخرط في حمأة الربيع العربي ونترجم مبدأ استقلال القضاء واقعا، أشهرنا الورقة الحمراء في وجه وزير العدل، فغادر منتخب المجلس الأعلى للسلطة القضائية، فهو أجنبي تماما عن مضامين المواد 113 وما بعدها من الدستور. وفي الوقت ذاته، ألحقنا المفتشية العامة وأمانة المجلس الأعلى للقضاء بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية: الأولى بنص الدستور، والثانية بمشروع القانون التنظيمي. وظلّت باقي المديريات العتيدة في مكانها، وعَلَى رَأْسِهَا وَبِهَا قُضَاة يرأسهم فعلِيا وزير عدل لا سلطان له بنص الدستور على قضاة المملكة!! هذه الخلطة العجيبة الغريبة أُضيفت إليها توابل الغموض واللبس بمقتضى المادتين 116 و110 من الدستور عندما لم تُحَدّدا صراحة السلطة التي يتبع لها قضاة النيابة العامة ! فإذا عزفنا سيمفونية استقلال القضاء وقلنا إنها الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، اصطدمنا بالإشكال التالي: مَا عَدَا الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي هو الرئيس الأول لمحكمة النقض، فالباقي مجرد أعضاء على قدم المساواة. إذن ما هي طبيعة العلاقة التي ستنشأ بين الرئيس المنتدب والوكيل العام للملك لدى محكمة النقض في موضوع قضاة النيابة العامة؟ وهل لمفهوم رئاسة المجلس بالنيابة عن الملك محل في هذا الخصوص؟ بمعنى، هل للرئيس الأول لمحكمة النقض سلطة رئاسية بالنيابة على الوكيل العام لدى محكمة النقض؟ ثم إننا أمام عضو فقط، من المجلس الأعلى للسلطة القضائية سيتبعه قضاة النيابة العامة بمجموعة التراب الوطني. ورب ممثل للنيابة العامة يقول: «لا علاقة لي بالرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، رئيسي هو الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض»، ألا نكون قد صنعنا رأسين لجسد واحد؟ ومن أين استوحى مشروع القانون التنظيمي للسلطة القضائية المادة التي تجيز للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض النيابة عن الرئيس المنتدب عند الضرورة؟ ألا نكون أمام «شخبطة» حقيقية: الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيساً منتدباً للسلطة القضائية عند الاقتضاء هو في الآن ذاتة رئيس النيابة العامة طبقا للمادة 115 من الدستور، يعد تقارير تقييم قضاته وينظر فيها في الوقت نفسه، خصم وحكم مرة واحدة، وسلطة اتهام على كُرسي قضاء الحكم. ألم يكن أولى بالنيابة عن الرئيس المنتدب عند الاقتضاء رئيس الغرفة المدنية الأولى بصفته قاضيا جالسا، فالترتيب الوارد في المادة 115 هو جرد فقط، وليس ترتيب مستحقي النيابة ! فإن نحن قلنا إن وزير العدل هو رئيس النيابة العامة، والحال أنه أجنبي عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ولم يذكره الدستور صراحة في المادتين 110 و116، ولا سلطان له على القضاة مطلقا، فكيف يعد تقارير التقييم طبقا للمادة 116 منه. هذا مشهد غامض وغريب: «وزير خارج التشكيلة رئيس للنيابة العامة». ووكيل عام للملك لدى محكمة النقض لاعب رسمي بالفريق ولا علاقة له بقضاة النيابة العامة. أما مديرو الإدارة المركزية وهم قضاة، فلا مكان لهم بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، لكن رئيسهم لوحدهم فقط، هو وزير العدل. عندما أصل إلى هذا الحد من السفسطة، أسترجع شارات النصر والتأييد التي صاحبت إصدار الدستور وأحس بإيماءة الرئيس اليوغوسلافي تيتو موجهة لنا: «تطلب منا قليلا من الشعر الأبيض، قليلا من التريث والرزانة، وكلمات طه حسين تستهزئ لنا ماكرة: « قليل من المتحمسين يملك الثقة بهم» !!! وجهة نظر: قد يكون من المفيد تغيير بعض مواد الدستور قبل المصادقة على مشاريع القوانين التنظيمية، لا العكس !! رئيس المنتدى المغربي للقضاة الباحثين [email protected]