يجلس الملك متقدما بسنتمترات عن أقرب مجالسيه، إلى يمينه شقيقه الأمير مولاي رشيد، وإلى يساره زوجته الأميرة لالة سلمى. يجلس قبالتهم مباشرة، فوق "المنصة"، ولي العهد مولاي الحسن فوق كرسي ليقرأ القرآن، ويقدم، رفقة زملائه في الدراسة، فقرات تنشيطية، بعدها ينزل متجها نحو والده: ينحني ويسلم عليه في وقار، ثم يتسلم منه جوائز عبارة عن كتب وشهادة تفوّق دراسي، في انتظار موسم آخر. هذا المشهد، المعدّ بعناية، شهدته، اول أمس الثلاثاء، المدرسة المولوية، التي يدرس فيها ولي العهد مولاي الحسن، إذ تنظم نهاية كل موسم دراسي حفلا يحرص محمد السادس على حضور شخصيا. ترؤس الملك للحفل كان أول نشاط يقوم به عقب عودته من جولته الإفريقية، وقد نقلت القنوات العمومية أجزاء منه، لتنتشر على نطاق واسع في مشهد يتكرر كل عام. فما قصة "المدرسة المولوية" التي يلجها بعض أبناء الشعب، الذين يتم اختيارهم بعناية لمرافقة الأمراء في الدراسة؟ وكيف يعدّ ولي العهد داخلها ليصير يوما ملكا؟ الدرس الأول ولي العهد في دستور مملكة محمد السادس هو الذكر الأكبر من ذريته، "ثم إلى ابنه الأكبر سنا وهكذا ما تعاقبوا، ما عدا إذا عين الملك قيد حياته خلفا له ولدا آخر من أبنائه غير الولد الأكبر سنا". مولاي الحسن الآن ولي عهد محمد السادس، وعلى هذا الأساس انطلقت، ومنذ السنوات الأولى في حياته، رحلة تحضيره وإعداده ل"مهنة ملك"، حسب تعبير الملك الراحل الحسن الثاني، التي تُبنى، بحسب التقاليد المرعية داخل "دار المخزن"، على الكفاءة والشعور العالي بالمسؤولية. وقد جرت العادة أن يبقى ولي العهد "قيد التدريب" على الدوام، ينشأ تحت عين الملك وبمصاحبة دقيقة من الطاقم المكلف بتحضيره للوظائف التي تنتظره كعاهل مستقبلي للبلاد، بل وينوب عن الملك، بهدف التأهيل، في العديد من الأنشطة، ويحضر رفقته بعض الاجتماعات كملاحظ. مولاي الحسن، ومثل جميع الأمراء، دخل المعهد المولوي بالرباط للدراسة كجزء من تحضيره العام ل"مهنة ملك"، وهو المعهد نفسه الذي احتضنت جدرانه ومرافقه العديد ممن ساهموا في صناعة القرار في المغرب منذ عهد الملك الراحل محمد الخامس. وقد كلّف الملك محمد السادس عزيز الحسين، الوزير السابق في الوظيفة العمومية وسفير المملكة السابق لدى قطر بالإشراف على تعليم ولي عهده. حين بلغ خمس سنوات، وفي فصل لا يتعدى عدد تلاميذه الخمسة، كلهم ذكور، جلس الأمير مولاي الحسن، يوم 10 أكتوبر 2008، إلى طاولة الدرس ل"المرة الأولى" بالمدرسة الأميرية بالقصر الملكي بالرباط. الدروس الأولى التي تلقاها ولي عهد محمد السادس داخل المعهد المولوي كانت في مواد اللغة العربية والفرنسية والتربية الدينية، وقد حضرها والده الملك إلى جانب والداته الأميرة للاسلمى، وشقيقته الأميرة للا خديجة. كان أول ما قام به مولاي الحسن داخل حجرة الدراسة هو تعليقه كلمتي "سميت سيدي" على السبورة تحت أنظار زملائه. هذا اسم ولي العهد واللقب الذي يطلق على ولي العهد في الدولة العلوية. هو كذلك الاسم الذي سيناديه به زملاؤه، كما أنه الاسم الذي اعتاد الخدم وأهل البلاط والوزراء والموظفون إطلاقه على الأمير، وقد حمله قبله والده الملك محمد السادس، وجده الملك الراحل الحسن الثاني، ومن سبقه من أولياء العهد. غير أن الاسم الحقيقي لولي العهد هو "مولاي الحسن"، الذي سيتحول حين جلوسه على العرش إلى "الحسن الثالث". وقد اختاره له والده محمد السادس لما له من رمزية تاريخية لدى الأسرة الملكية، فقد تعاقب على حكم المغرب ملكان حملا الاسم ذاته: الحسن الأول ابن السلطان محمد الرابع، والحسن الثاني ابن الملك محمد الخامس. في المدرسة المولوية يتلقى مولاي الحسن وزملاؤه تعليما يزاوج بين التقاليد والأصالة والإسلام من جهة، والانفتاح على الثقافات الأجنبية واللغات والآداب العالمية والعلوم الدقيقة من جهة أخرى. وقد سبق لمحمد السادس، في أحد اللقاءات الصحفية، أن صرّح أنه يحرص على أن "يحصل ولي العهد على تربية مثل التي حصلنا عليها أنا وشقيقاتي وشقيقي"، وهي تربية قال إنها "تميل إلى الصرامة مع برنامج دراسي حافل.. إذ تلقينا تربية دينية جيدة في الكتاب القرآني بالقصر. وأنا حريص على أن يتلقى ابني نفس القواعد التربوية". ويوجد داخل المعهد المولوي فريقان مهمتهما السهر على حسن سير الدراسة في قسم "سميت سيدي"، الأول يتكون من أساتذة اللغات ( العربية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية) والرياضيات والتاريخ والتربية الدينية ومواد تكميلية أخرى، في حين ينهض الثاني بمهمة الإشراف على الأنشطة الموازية، التي يستفيد منها ولي العهد وزملاؤه. البرامج الدراسية بالمعهد المولوي مكثفة جدا، تضم القرآن الكريم، والتربية الإسلامية، والفلسفة، ودراسة وتحليل النصوص، والتاريخ، والجغرافية، والنحو، وتاريخ الآداب، والترجمة، واللغات الحية ( الفرنسية، والإنجليزية، والإسبانية)، والعلوم والرياضيات، والرياضة البدنية، وتملأ البرنامج اليومي ل"الملك المستقبلي" من طلوع الشمس إلى غروبها، وتكون البداية في الغالب باستظهار سور من القرآن الكريم ساعة قبل تناول وجبة الإفطار. أما تلقي الدروس فيبدأ من الساعة الثامنة صباحا إلى السادسة مساء، ويشرف الملك شخصيا، وبشكل مباشر، على البرنامج الدراسي، علما أنه جرى توجيه العاملين داخل المدرسة المولوية للتعامل مع الأمير بمساواة مع زملائه دون تمييز، إلا ما تقتضيه الأعراف الملزمة باحترام "سميت سيدي". الأسبوع الدراسي لمولاي الحسن داخل المدرسة المولوية يبتدئ، عموما، من يوم الاثنين وينتهي يوم السبت، ويبلغ مجموع ساعات الدراسة نحو 45 ساعة في الأسبوع، تشمل حصص الدعم والمراجعة. أما يوم السبت فتتم فيه برمجة بعض الأنشطة الموازية، بينها حصة رؤية فيلم مختار بعناية كبيرة يعرض داخل "سينما المعهد". كما تخصص لولي العهد وزملائه ساعات للرياضة البدنية، بعض حصصها يشرف عليها مدربون ومؤطرون منتمون إلى الدرك الملكي والقوات المسلحة الملكية، ومن خارجهما. ويوجد داخل المعهد المولوي مطعم، ويفترض أن تصاحب الأمير مربية تهتم بشؤونه الخاصة. أول ظهور ل"ملك المستقبل" في الثامن من شهر ماي من عام 2003، شاهد المغاربة الصور الأولى لولي العهد الأمير مولاي الحسن ساعات بعد ولادته. وبعد سنوات عاين المغاربة كيف يتعامل الأمير الصغير مع الكاميرا وأضوائها وتحركاتها ورصدها المستمر له. ثم بدأ يظهر ولي العهد في عدة مناسبات. فعشية احتفاله بالذكرى الثامنة لميلاده، بعد عودته من حضور احتفالات زواج ولي العهد البريطاني كأولى مهامه الخارجية بصفته والي العهد، تولى مولاي الحسن الرئاسة الرسمية لإعطاء انطلاق سباق للدراجات، من أمام باب القصر الملكي بالرباط، لوحده دون والده الملك ولا أمه الأميرة للا سلمى، إذ مشى فوق البساط الأحمر وتلقى التحية العسكرية، ثم تقدم للسلام على صف من المسؤولين، ولم ينس التلويح لجموع المواطنين الذين تجمهروا بالقرب من موقع الحدث. بعد ذلك احتل ولي العهد موقعه العادي في المشهد الإعلامي ك"ملك مستقبلي"، فصار يشرف على العديد من الأنشطة بمفرده، علما أن الظهور الإعلامي لولي العهد لا مجال فيه للعفوية، فالأمر يتعلق بالابن البكر للملك، ويرتبط بسعي المشرفين على البروتوكول إلى رسم ملامح صورة معينة عن ولي العهد. ففي مختلف المناسبات الرسمية والدينية والعائلية التي ظهر فيها الأمير مولاي الحسن، سواء إلى جانب والده الملك محمد السادس أو إلى جانب والدته الأميرة للا سلمى، أو إلى جانبهما معا، كانت المشاهد ترسخ حضور الأمير الهادئ والرزين. بل لاحظ كثيرون أن بعض حركاته وتصرفاته أمام الكاميرا تشبه حركات الملك الراحل الحسن الثاني. وقد جرت العادة داخل البلاط أن تتكثف أنشطة ولي العهد الرسمية والمهام التي يكلفه بها والده، وهو الأمر نفسه الذي حصل بين الملك الراحل الحسن الثاني وولي عهده مولاي محمد، والذي كلفه حين كان وليا للعهد بالعديد من المهام الرسمية والكثير من البعثات في الداخل والخارج. وعلى العموم، تبقى حياة ولي العهد مولاي الحسن ولباسه ولعبه ودراسته وحضوره في المناسبات، وإشرافه على بعضها، واضطلاعه ببعض المهام الرسمية، أمورا تدخل في صميم إعداده ل"مهنة ملك". عزيز الحسين.. مدير المدرسة مسار عزيز الحسين حافل في أكثر من مجال. إنه حاصل على دكتوراه الدولة في الآداب والعلوم الإنسانية من جامعة Aix en Provence عام 1988 بفرنسا، وعلى دكتوراه السلك الثالث في الآداب العربية من الجامعة نفسه عام 1983، وهو حاصل أيضا على الإجازة في الآداب من كلية الآداب بالرباط عام 1978، وعلى دبلوم اللغة العربية من الكلية نفسهاعام 1962. وقد كان عضوا منذ عام 1993 بالمكتب التنفيذي للتجمع الوطني للأحرار، وشغل منصب رئيس جماعة وجدة سيدي زيان (1992–1997)، ومنصب نائب رئيس أول بالمجموعة الحضرية لوجدة (1992–1997)، ثم كاتبا عاما لجمعية أنكاد (1988 – 1994). كان الخليجيون يلقبونه، عندما كان سفيرا هناك، ب"الفقيه" لإتقانه لغة الضاد. ورغم أنه ازداد في وجدة ونشأ فيها وترأس مجلسها البلدي لسيدي زيان، فإن الرجل أمازيغي ينحدر من عائلة سوسية. اختاره الملك محمد السادس للتكفل بتربية وتعليم ابنه ولي العهد الأمير مولاي الحسن منذ التحاقه بالمدرسة المولوية. وكان أول قرار اتخذه عزيز الحسين، الذي شغل منصب وزير الوظيفة العمومية والإصلاح الإداري في حكومة عبد الرحمن اليوسفي، مباشرة بعد تعيينه مديرا للمدرسة المولوية، أنه جمد عضويته في المكتب التنفيذي لحزب الأحرار، بهدف التفرغ الكامل لمهمته الجديدة المرتبطة بإعداد ملك المستقبل. كما اشتغل عزيز الحسين أستاذا في التعليم العالي بالمدرسة العليا للأساتذة بالرباط (رئيس لجنة مباراة التبريز في الترجمة منذ عام 1994). كما تقلد مناصب مدير ثانوية، ثم مدير المدرسة العليا للأساتذة في وجدة، ثم مندوب وزارة التربية الوطنية بالرباط، ثم عين عضوا بديوان وزير التربية الوطنية، ثم مديرا للتعليم الأساسي. وكان مديرا لثانوية دار السلام بالرباط، والتي اجتاز فيها الملك محمد السادس حينما كان وليا للعهد امتحان الباكالوريا في شهر يونيو 1981. وخلف عزيز الحسين عبد الجليل الجحمري على رأس المعهد المولوي مع الدخول المدرسي الذي شهد التحاق مولاي الحسن ولي العهد بفصول الدراسة.