محمد مصباح تمكن النظام الحاكم في المغرب من إدماج جل رموز ما سمي بتيار «السلفية الجهادية» في العملية السياسية الرسمية. فمنذ خروجهم من السجن، نتيجة عفو ملكي على فترات متقطعة منذ شهر أبريل 2011، لوحظ تغير فكري ومسلكي لدى شيوخ التيار الجهادي يتجه أكثر فأكثر نحو المشاركة السياسية. فقد كانت صفقة الخروج مرتبطة بنبذ العنف والمشاركة في الحياة العامة، باعتبار أن الدولة تعتبر أن تحزيب وتسييس القوى الاجتماعية هو الكفيل بضبطها. ولكن رغم ما يظهر من الوهلة الأولى أنه نتائج إيجابية، فقد أدى إدماج رموز تيار «السلفية الجهادية» في الحياة الحزبية إلى نتائج عكسية، فقد ساهمت المشاركة السياسية ليس في تراجع التطرف الجهادي، ولكن فقط إلى إضعاف مصداقية الشيوخ لدى أتباعهم، وهو ما أفرز نتائج غير متوقعة تجلت في ظهور بدائل أكثر تطرفا. وقد شكل شهر ماي 2015 محطة مهمة في مسار تدبير ملف «السلفية الجهادية» بالمغرب. ففي نهاية الشهر، انخرط عبد الكريم الشاذلي – وهو أحد أبرز المعتقلين على خلفية قانون الإرهاب سنة 2003- في حزب «الحركة الديمقراطية الاجتماعية»، الذي أسسه محمود عرشان؛ وهو ضابط شرطة سابق ومقرب من وزير الداخلية السابق إدريس البصري. انشق هذا الحزب (رمزه «النخلة») عن الحركة الشعبية في منتصف التسعينات، وقد ولد هذا الحزب ميتا. من الراجح أن يؤثر انضمام الشاذلي إلى حزب عرشان سلبيا على باقي الجهاديين التائبين. فدخوله للعمل الحزبي، عبر بوابة حزب مغمور، يشكل مغامرة غير محسوبة النتائج. لقد كانت هناك محاولات سابقة للسلفيين للاندماج في حزب النهضة والفضيلة -وهو حزب صغير منشق عن حزب العدالة والتنمية– ولم تثمر مكاسب كثيرة بالنسبة للسلفيين، وسيؤدي دخول الشاذلي لحزب آخر إلى مزيد من تشتيت القوى السلفية. كما أنه لم يُنظر إلى هذه المبادرة بجدية بسبب مواقف الشاذلي السابقة المعروفة بتكفيره للديمقراطية والانتخابات، وبكون عملية انضمامه إلى هذا الحزب، المقرب من النظام، تم رفقة شخصيات شيعية مغربية معروفة بعدائها للسلفيين. فلا الشاذلي قام بمراجعة أفكاره السابقة، ولا هو فسر سبب انخراطه في حزب سياسي مغمور. وفي نفس الفترة التي انخرط فيها الشاذلي في العمل السياسي تُجري السلطات الأمنية في المغرب مفاوضات وصفت ب»السرية» مع قادة السلفية الجهادية بالسجون بالمغربية بهدف إدماجهم في الحياة الحزبية بعد الإفراج عنهم. إلا أنه من الراجح أن مغامرة الشاذلي ستربك المعادلة وتجعلهم يترددون في الانخراط في حزب «النخلة» بسبب تواجد الشيعة ضمنه. وقد بثت القناة الرسمية الثانية نشرة إخبارية مطولة في الذكرى 12 لأحداث 16 ماي 2003 للحديث عن المراجعات الفكرية التي يقودها الشيخ حسن الخطاب -أحد رموز التيار الجهادي في المغرب وزعيم خلية «أنصار المهدي» التي فككتها السلطات سنة 2008- من داخل السجون. وأجرت حوارا معه لأول مرة، إضافة إلى أحد «الدواعش» التائبين الراجعين من سوريا. ويبدو أن هدف عرض هذه النشرة الإخبارية الخاصة هو تهيئة الرأي العام لتقبل عملية إدماج السلفيين الجهاديين التائبين في العملية السياسية. كما نظمت جمعية مقربة من حزب الأصالة والمعاصرة في نفس اليوم ندوة جمعت فيها مسؤولين سياسيين ورئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومعتقلين سلفيين سابقين وممثلين عن الكنيسة المسيحية والبيعة اليهودية في المغرب. هذه التحركات الأخيرة هي إشارة أخرى إلى أن الدولة لديها رغبة في البحث عن حلول لملف السلفية الجهادية. وقبل ذلك، وخلال صيف 2013 التحق الشيخ محمد رفيقي أبو حفص بحزب النهضة والفضيلة، رفقة عدد من زملائه المعتقلين السابقين على خلفية قانون الإرهاب. كما عبر الشيخ محمد الفيزازي عن رغبته في تأسيس حزب سياسي وظهر في لقاءات حزبية كثيرة، في حين بقي عمر الحدوشي وحسن الكتاني على مواقفهما الرافضة للمشاركة السياسية في ظل الوضع الحالي. قُرأت هذه الإشارات على أنها رغبة لطي ملف «السلفية الجهادية». ولكنه يبدو على الأرجح أنه تكتيك ظرفي أكثر منه توجها استراتيجيا لحل الملف على المدى البعيد. فالظاهر أن مقاربة الدولة لموضوع الإرهاب لم تتغير، فلا زالت تعتمد أساسا على المقاربة الأمنية أكثر من شيء آخر، ولحد الآن لا تظهر الدولة جدية كاملة في إيجاد حلول موازية طويلة الأمد. تعكس هذه الدينامية مفارقة، إذ تبدو من الوهلة الأولى أن الدولة استفادت من عملية انخراط الجهاديين السابقين في العملية السياسية، إلا أنها أدت إلى نتائج غير متوقعة. بسماحها للسلفيين بالتنظيم في الأحزاب والجمعيات القانونية، تكون الدولة قد حققت بعض المكاسب على المدى القصير. أولا: ساهمت عملية الإفراج عن السلفيين، ثم السماح لهم بالنشاط السياسي – المحدود – في تحسين صورتها أمام الجمعيات الحقوقية التي طالما انتقدت السلطات المغربية بسبب التجاوزات في احترام حقوق الإنسان والمحاكمة العادلة للكثير من الملفات المرتبطة بقضايا الإرهاب خلال الفترة السابقة (بين 2003 و2010). فالسماح لجزء من السلفيين الجهاديين السابقين بالمشاركة في حزب سياسي قائم، يعطيها حججا لمواجهة منتقدي المقاربة الأمنية في التعامل مع السلفيين. باعتبار أن الدولة لا تعارض مشاركة السلفيين في العمل السياسي، بشرط الالتزام بقواعده. ثانيا، أن إدماج السلفيين في الأحزاب يضعهم تحت «اختبار تحسن السلوك»، ويسمح بمراقبة سلوكهم ويساعد الدولة على التواصل مع جهة مُنظمة. فلطالما عانت الدولة من غياب مخاطب رسمي في صفوف السلفيين، بسبب تشتتهم وانقسامهم. ثالثا، إضعاف السلفيين عبر تشجيع المنافسة بين القيادات. فتشتت السلفيين الجهاديين ضمن أحزاب مختلفة ومقربة من النظام يضعفهم ويشتت صفوفهم. مقابل ذلك، لم يجن الجهاديون التائبون إلا مكاسب ثانوية. فقد كان الهاجس الأساسي لهم هو الحصول على حماية قانونية وتسوية وضعيتهم القانونية والمادية مع الدولة. يضاف إلى ذلك أن أغلب المعتقلين السلفيين المفرج عنهم لم ينخرطوا في العملية السياسية، بل بقيت المسألة مرتبطة ببعض الشيوخ الذين فقدوا الكثير من تأييد الأتباع. إلا أن المقاربة المعتمدة على التحكم القبلي ستؤدي إلى نتائج عكسية حينما تفقد القيادات التاريخية بريقها يطرح تحدي البدائل. وقد يؤدي تقويض مصداقية الشيوخ «المعتدلين» إلى ظهور زعامات بديلة أكثر تطرفا، وهو ما ظهر عمليا في القيادات «الداعشية» الجديدة والتي تعتمد أساسا على جيل جهادي جديد مفصول عن القيادات التاريخية – بل يكفرها أحيانا. لا يتجلى المشكل في إدماج السلفيين في الحياة السياسية –بل هو مطلوب وضروري لاعتدالهم– ولكن ليس من مصلحة الدولة نزع المصداقية بشكل كامل عن شيوخ التيار الجهادي، بل من المفيد لها أن تستعملهم في مكافحة التطرف عبر اعتماد مقاربة بديلة تعتمد على الرقابة البعدية وليس القبلية، أي إعطاء مساحة من الحرية للاشتغال لشيوخ التيار الجهادي التائبين، مع ضمان المراقبة (وليس التحكم) والسماح لهم بفتح حوارات داخلية مع التيار الجهادي واختيار النهج السلمي الأنسب. باحث بمركز كارنيجي للشرق الأوسط