سنة واحدة أمهلته إياها الأقدار بعد وعكته الصحية الأخيرة، بين 6 يونيو 2014 و20 ماي 2015، كانت أيام وشهور أكبر جنرالات المملكة وأكثرهم تعميرا في أعلى مسؤوليات جيش المملكة معدودة، إذ لم يتوقّف عدّادها إلا بعد ساعات من انتشار أولى أنباء الوفاة صباح أول أمس الأربعاء في محيط بيته الرباطي، وانتهاء مسيرة بدأت ذات 1939 بين جبال تازة. فبعد عشر سنوات من تعيينه مفتشا عاما للقوات المسلحة الملكية، وثلاثين عاما بعد توليه قيادة المنطقة الجنوبية ذات الأهمية الاستراتيجية والعددية الكبيرة، قرّرت قوانين البيولوجيا إزاحة أقدم مسؤول عسكري وأكثرهم قوة ونفوذا. تجسيد الجيش عبد العزيز بناني الذي غادر المغرب قبل أقل من سنة في اتجاه المستشفى العسكري بباريس للخضوع للعلاج، ترك ابتداء من 13 يونيو 2014 منصب المفتش العام السابق للقوات المسلحة الملكية، مقعد الرجل الثاني في الجيش بعد الملك، وخلفه أحد مجايليه القادمين من تجربة عسكرية بدأت في الخمسينيات، المفتش السابق للمكتب الثالث الجنرال بوشعيب عروب. انتقال، ورغم حساسيته وأهميته الاستراتيجية في البنيان الداخلي للمملكة، لم يكن سرّا على أحد. برقية سرية بعثها السفير الأمريكي السابق طوماس رايلي منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة إلى واشنطن، توقّعت رحيل بناني وتعويضه بالجنرال عروب، ليس لأن أعراض الشيخوخة أو المرض أصبحت ظاهرة على محيّا أبرز جنرالات الحسن الثاني، بل لأن سفير واشنطن كشف، قبل أكثر من ست سنوات، أن الراحل هو في أعين الأمريكيين عسكري موال للفرنسيين لم يغيّر ميولاته نحو النموذج الأمريكي في التسلّح والتعاون والتنسيق رغم اجتهاداته الكبيرة. «في استجواب سابق أجريته مع مجلة «تيل كيل»، وصفت الجنرال بناني بأنه الرجل الذي يجسّد الجيش (l'armée c'est lui)، ورغم أن أول ما يتبادر إلى ذهني هو أنه لم يفعل الكثير من أجلنا حين تم أسرنا لدى جبهة البوليساريو، إلا أنني سرعان ما أتخلّص من ذلك لأحكم على الشخص»، يقول الطيّار المتقاعد، علي نجاب، وأحد الذين قضوا عقودا مريرة في قبضة العدوّ الأول للمملكة، جبهة البوليساريو الانفصالية. نجاب وبعدما تذكّر كيف أن «قبائل غياثة وبني وراين كانت تقاوم جيش الاستعمار الفرنسي بينما عائلة بناني البورجوازية ترعى تجارتها وثروتها في مدينة تازة»، عاد ليقول إنه اشتغل إلى جانب الراحل ولمس فيه خصال الضابط الكفء المواظب والمخلص لعمله. وفي الوقت الذي يعتبر فيه بناني أبرز من أشرفوا على حرب الصحراء من خلال قيادته للمنطقة الجنوبية، يلخّص علي نجاب تقييمه لتلك الحرب بالقول: «لقد ربحناها، والدليل هو أن البوليساريو توجد اليوم في تندوف وليس في الصحراء، لكن الكلفة كانت كبيرة، الكلفة المادية والبشرية كانت مرتفعة». لحظة الانتقال التي عاشها العرش العلوي عام 1999 توّجت الرجل ضمن كوكبة رجالات الملكين، حيث كان ضمن أوائل الموقّعين على بيعة الملك الجديد، في خطوة غير مسبوقة لإشراك قادة الجيش في بيعة الملوك. وفيما شكّل ذلك التوقيع سببا لخلاف عائلي بين أفراد الأسرة العلوية حول جدوى إشراك العسكر في هذا الإجراء، كانت القيادة العليا للجيش المغربي على موعد يوم 9 غشت 1999 مع اجتماع عقده محمد السادس مع القيادات العسكرية بصفته ملكا للبلاد لأول مرة. وكان ذلك اللقاء بمثابة إقرار بالبيعة من طرف الضباط. قبل أن يوالي الملك الجديد زياراته للحاميات العسكرية والأقاليم الجنوبية. وكانت أقوى لمسات محمد السادس على وجه مؤسسته العسكرية هي تحقيق اختراق المدنيين لإحدى قلاعها، وذلك بتعيين صديقه محمد ياسين المنصوري على رأس استخباراتها، وإقالة الجنرال عبد الحق القادري، وبعد كل ذلك، تم تعيين عبد العزيز بناني مفتشا عاما للقوات المسلحة الملكية، إضافة إلى مهمته كقائد للمنطقة الجنوبية… قيادة حساسة يعود تقلّد بناني منصب العسكري الأول في النصف الجنوبي من المملكة إلى سنة 1983، معوّضا الجنرال أحمد الدليمي إثر وفاته في «حادثة السير» الشهيرة. وظل بناني منذ هذا التاريخ يسيّر أمور المنطقة الأكثر عسكرة في تراب المملكة، والأكثر حساسية لأمنها الخارجي لتماسها المباشر من قوات البوليساريو ومحتضنتها الجزائر. بل إنه كان سنة 1997 أحد أعضاء الوفد المغربي الذي ذهب إلى عاصمة الضباب لمفاوضة البوليساريو. ليزكيه محمد السادس في مكانته كماسك أول بملفات الصحراء الساخنة بعد اعتلائه العرش. خاصة عندما أوكله مهمة مجالسة الأمين العام الأممي السابق كوفي عنان، الذي زار المملكة سنة 2000. ورغم انحداره أساسا من المدرسة العسكرية الفرنسية، يقول بعض متتبعي المؤسسة العسكرية، فإن الرجل أبدى قدرة استثنائية على التأقلم مع المستجدات العسكرية العالمية، التي أدت إلى إزاحة المدرسة العسكرية الفرنسية عن العديد من معاقلها لصالح نظيرتها الأمريكية على جميع المستويات. برقية السفير الأمريكي السابق، طوماس رايلي، التي توقّعت إزاحة بناني من منصب المفتش العام، كشفت الكثير من المعطيات المثيرة حول ثروة الراحل ومصالحه الاقتصادية الكبرى في البر والبحر. فقد امتلك عن طريق مقرّبين منه إحدى أكبر شركات الصيد في أعالي البحار، إضافة إلى عشرات رخص استغلال مقالع الرمال والأحجار والضيعات الفلاحية ورخص النقل الطرقي… والتي كان يتحكم فيها الجنرال، إما مباشرة، أو عن طريق شبكة الأقرباء والمقربين. فيما ظل منصب الجنرال السابق، مفتش المنطقة الجنوبية، شاغرا منذ تعيينه مفتشا عاما للقوات المسلحة الملكية، كما لو أن أحدا لا يستطيع تعويض الرجل أو الحلول مكانه. وفيما يصفه البعض بالعسكري الحريص على أناقته، كان حتى وهو في سنّ الشيخوخة يصر على ارتداء بزته المثقلة بالنياشين والأوسمة، متجنبا لهيب الواجهة والظهور الإعلامي الذي طالما انكوى به زميله حسني بنسليمان. أصل متواضع كثير من أبناء مدينة تازة وضواحيها يتذكرون أصول الرجل الذي لُقّب بالعسكري الأول لمملكة محمد السادس، الجنرال دوكور دارمي، والمفتش العام للقوات المسلحة الملكية، عبد العزيز بناني. ويتذكرون بعض المحلات التجارية البسيطة التي زاول فيها أبناء عائلة بناني التازية تجارتهم البسيطة في ساحة «أحراش» الشهيرة، ضمنها المحل الذي زاول فيه والده تجارة الثوب، والتي مازالت تشهد على الأصل المتواضع لشيخ الجنرالات المغاربة، والذي عكس جنرال آخر اسمه حسني بنسليمان، ما يعني أنه لا يجرّ وراءه شجرة نسب لعائلة كبيرة، رغم أن الجنرالين معا من خريجي «فوج محمد الخامس» بالمدرسة العسكرية للضباط بمدينة مكناس، عام 1956. فيما لم يتأخر أول عمل عسكري في مسيرة هذا الجنرال المعمّر، حيث كانت أولى المهام التي شارك فيها تلك المتمثلة في استعادة طرفاية من يد الإسبان عام 1957. لكن محطة قفزته الحقيقية، كانت عام 1975 مع اندلاع حرب الصحراء ضد جبهة البوليساريو، مرورا بمشاركته الفعالة في حرب الرمال ضد الجزائر عام 1963. فرغم أن جل أفراد عائلته امتهنوا التجارة، خاصة تجارة الحبوب، كان عبد العزيز الابن الأول للعائلة الذي اختار ارتداء البزة العسكرية، وكان ضمن مجموعة أولى من الشبان المحظوظين الذين تم انتقاؤهم بعد الحصول على الباكالوريا للاستفادة من تكوينات مكثفة في كل من إسبانيا وفرنسا. والإنجاز الذي قد يكون رأسماله الذي لا يفنى بعد توليه مقاليد حرب الصحراء، هو بناء الجدار الرملي لحماية الصحراء من هجمات البوليساريو. بناني سخّر أزيد من 120 ألف جندي لبناء «السمطة» موازاة مع خوض المعارك الحربية. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، تحوّل بناني إلى قائد لأكثر من 100 ألف جندي يتمركزون في الصحراء، وشيّد لنفسه قيادة جنوبية بمدينة أكادير، فيما كان على مئات الأسرى العسكريين لدى الجبهة الانفصالية قضاء قرابة عقدين آخرين في قبضة «العدو». أزمة دبلوماسية المواقف المتناقضة من مسار رجل استثنائي جسّدها ما أقدم عليه القبطان السابق المقيم حاليا في الديار الفرنسية، مصطفى أديب، والذي كان قد أحيل على المحاكمة والعقاب العسكريين، بعد إقدامه على ما يعتبره فضحا للفساد. أديب لم يتأخر في استثمار وجود الجنرال الراحل في الديار الفرنسية الصيف الماضي، حيث خضع للعلاج في المستشفى العسكري، لينظّم وقفات احتجاجية، ويجري زيارات غير ودّية للجنرال في غرفة استشفائه تاركا رسائل قاسية لأقاربه. تصرّف سرعان ما تحوّل إلى أزمة دبلوماسية بين المغرب وفرنسا، وبعد البيان المثير الذي أصدره كرئيس للحكومة، مباشرة بعد اندلاع الأزمة الأخيرة بين المغرب وفرنسا، ومهاجمته إقدام أديب على زيارة الجنرال عبد العزيز بناني في المستشفى حاملا ورودا «رخيصة» ورسالة متهجمة عليه؛ عاد عبد الإله بنكيران في لقاء خطابي بمدينة سلا ليقول إنه يحيي» الجنرال عبد العزيز بناني، «وأدين التصرف غير الأخلاقي الذي قام به ذاك المسمى أديب وما هو بأديب». وأضاف بنكيران أن هذا الأخير كان عليه أن يوقر «رجلا مريضا وفي غيبوبة». ومضى بنكيران في دفاعه عن الجنرال بناني قائلا: «لقد التقيته عدة مرات واشتغلنا معا، وإذا فقدناه غادي تكون خسارة عظمى، باش تكون الأمور واضحة».