دشنت مؤسسة أبو بكر القادري للفكر والثقافة مقرها الجديد بمدينة سلا بندوة فكرية في موضوع: «الثقافة والكتاب ووسائل الاتصال الحديثة». وأطر الباحث عبد الحي المودن اللقاء بأسئلة شائكة تطرح التحديات التي تطرحها وسائط الاتصال الحديثة على الثقافة المغربية، وخاصة الكتاب، وكذا تأثيرها في الانتقال من الثقافة المكتوبة إلى الثقافة الرقمية الجديدة. في مستهل ندوة مؤسس أبو بكر القادري للفكر والثقافة، قدم وزير التربية والوطنية، رشيد بلمختار، ملامح عن وضعية التعليم الراهنة، واصفا إياها بالكارثية. إذ قال إن قطاع التعليم، الذي يتحمل مسؤوليته منذ سنتين تقريبا، وصل إلى حدّ لا يحتمل انتظار اتخاذ القرارات، مشيرا إلى أن الوقت الراهن لم يعد وقت «الهضرة»، بل هو وقت اتخاذ خطوات عملية عاجلة على أرض الواقع. وقدم بلمختار، الذي أمضى نحو ساعة من «الهضرة» خلال تدخله، يوم السبت الماضي، بندوة مؤسسة أبو بكر القادري، ما يشبه الاعتراف بأخطائه لمّا كان وزيرا للقطاع ذاته خلال تسعينيات القرن الماضي. إذ اعتبر أن أجيال التلاميذ اليوم تروح ضحية قرارات خاطئة سابقة، حيث اعتبر أن هذه القرارات أدت إلى كون 76 في المائة من التلاميذ لا يحسنون القراءة بعد أربع سنوات من التعلم، مشيرا إلى أن المدرسة المغربية تعاني ثلاث مشكلات أساسية هي: مشكلة كفاءة الأساتذة، مشكلة الأخلاق، وأخيرا مشكلة الحكامة. لكن الغريب في الأمر يكمن في أنه بدل أن يعلن وزير التربية الوطنية عن الخطوات العملية، التي ينبغي إنجازها لتجاوز هذه المشكلات الثلاث، صرح أن وزارته لازالت تفكر في كيفية الانتقال من تشخيص واقع التعليم إلى تحليله، رغم أنه تقلد هذا المنصب في مناسبتين. ومن بين المشكلات التي طرحها الوزير كون برامج التعليم لا تلائم الطفل، حيث اعتبر أن المدرسة المغربية تعلم التلاميذ مجموعة من «الخرايف»، وتمارس التعسف في حقهم. من جهة أخرى، أعلن بلمختار عن تسعة إصلاحات عاجلة ينبغي اتخاذها في القريب العاجل، لإصلاح هذا القطاع الذي يستهلك 27 في المائة من ميزانية الحكومة بدون طائل، بحسب تعبير الوزير. وفي هذا الصدد، قال إنه لابد أن يتمكن التلميذ من القراءة والكتابة والحساب خلال السنوات الثلاث الأولى من التعليم الابتدائي، ولابد من إصلاح نظام تنقيط الانتقال من طور إلى طور، وتحقيق اندماج التعليم والتكوين المهني، وحل مشكلة اللغات الأجنبية المعتمدة. لكن بملختار لم يقدم أي توضيحات بخصوص الموقع الذي ستحتله اللغة الإنجليزية في النظام التعليمي الجديد، باعتبارها لغة العلم والتكنولوجيا، بحسب تعبيره هو نفسه. كما أعلن أن تكوين الطلبة الأساتذة سيستغرق ثلاث سنوات بدل سنة واحدة، مشيرا إلى أن 30 ألف أستاذ أدمجوا في التعليم بدون تكوين، وأن 40 ألف لم يجتازوا لحد الآن امتحان الكفاءة. وأخيرا، قال بلمختار إنه لابد من حل المشكلات المتعلقة بالحكامة، وتخليق المدرسة، وإدماج التكنولوجيات الحديثة كوسيلة في البرامج. من جانبه، ركز الكاتب محمد الأشعري على فعل القراءة، باعتباره فعلا إنسانيا متفردا يقع في الحدود الملتبسة بين السياسة والإبداع والمتعة. إذ اعتبر أن هذا الفعل يبني الذاكرة والحياة المشتركة في الواقع والتمثل، مشيرا إلى أن الحياة موجودة في القراءة أكثر مما هي موجودة في الواقع، بحسب تعبير خورخي لويس بورخيص. في هذا السياق، تساءل الأشعري، مسائلا نفسه في الآن ذاته باعتباره كان وزيرا أيضا، عما إذ كانت السياسة تجتهد فعلا لوضع سياسة وطنية للقراءة، حيث أشار إلى أن غياب هذه السياسة يخلق فراغات خطيرة، موضحا أن أول هذه الفراغات تكمن في ضعف مردودية المقاولة الثقافية (وهنا يقارن بين المغرب وأوروبا، حيث ذكر أن الناشرين المغاربة لا ينتجون سوى 20 رواية في السنة، في مقابل 500 في فرنسا مثلا. كما ذكّر بأن عدد النسخ التي تصدر من الكتاب الواحد في بلد عدد سكانه نحو 34 مليون نسمة لا تتعدى ألفي نسخة في أقصى الحدود. وأشار، أيضا، إلى أنه في الوقت الذي يتوفر فيه المغرب على 15 ألف أستاذ جامعي و600 ألف طالب، لا تتعدى مبيعات الكتاب الواحد 600 نسخة). وتابع الأشعري قائلا إن غياب سياسة من هذا القبيل تنتج العجز في تكوين قاعدة مشتركة لثقافة عامة. إذ أكد أن هذه القاعدة كفيلة باستيعاب قيم التقدم والحداثة، وصناعة النخب، وكذا العجز عن إقامة جسور مع ثقافات إنسانية أخرى من منطق الندية والتكافؤ، مشيرا إلى أن ذلك يخلق هوة ثقافية بين المغرب والعالم. هكذا، دعا الأشعري إلى ضرورة إيجاد سياسة عمومية للقراءة، موضحا أن المقصود بهذه السياسة ليس المجهود التربوي، الذي ينبغي أن يُبذل من خلال المدرسة فحسب، بل ذاك الجهد الذي يُبذل من خلال آليات توسيع القراءة في المجتمع. أما الباحث عبد السلام بنعبد العالي، فقد أكد أن تطور المعرفة في الوقت الراهن يطرح أسئلة عميقة على منظومتنا التربوية. إذ قال إنه بعدما كانت المعرفة تقتصر على جماعات محددة ومحصورة في نخب معينة، بات تطورها اليوم عبر وسائل الاتصال الجديدة التي تؤثر تأثيرا مباشرا في البرامج التعليمية والمدارس، وتتحرر مع انتشار الديمقراطية من العزلة التي فُرضت عليها، مشيرا إلى أن زمن المساجد والبلاطات ولّى، لتحل محله المدارس والجامعات. بل إنه اعتبر أن الوسائط الجديدة، الرقمية على الخصوص، ستوسع شبكات انتشار المعرفة وستؤثر في سرعة انتقالها ومعالجتها وتلقيها. كما اعتبر أن التعليم لن يبقى، مع الثورة الرقمية، محصورا على المؤسسات ومؤطرا بإدارات متخصصة، موضحا أنه أصبح متاحا عن بعد. وتساءل إدريس خروز، المسؤول الأول عن المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، عن وضع القراءة في المغربية، مشيرا إلى أن هذا الفعل يعتبر نتاج سيرورة اجتماعية لم يلجها المغاربة بعد، بسبب الإقصاء الذي مارسه القرار السياسي حينما حصر القراءة على النخبة والأعيان والفقهاء ومستشاري المخزن. واعتبر أن ما يجري اليوم هو نتاج ما كان يجري خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، أي في زمن الثورة الثقافية والصناعية الأوروبية. كما اعتبر أن جمود واقع القراءة اليوم مرده إلى كون التربية والتعليم شجعا على الحفظ والتكرار، بدل الاختيارات الشخصية، وإلى كون القراءة تفترض ثقافة عامة غير منتشرة بين المغاربة. وخلص إلى أن من ينتج الوسائط التكنولوجية اليوم بمقدوره التحكم في المعرفة، وتوجيه إنتاجها، موضحا أن وضع الراهن لا يسمح للمغاربة بالتحكم في الإنتاج الثقافي والمعرفي، نظرا إلى أنهم يكتفون باستهلاك هذه الوسائط.