في مثل هذا اليوم قبل ست سنوات بدأت جريدة «أخبار اليوم» أولى خطواتها في طريق الصحافة والنشر. خلال السنوات الست الماضية حاولنا أن نشيد جسرا من الكلمات والحروف بين القارئ والأحداث الجارية، والسياسات العمومية، والقرارات الكبرى والصغرى. كان همنا أن يعرف القارئ أكثر، وبعدها ليتخذ القرار الذي يريده. كان هدفنا أن نخاطب عقل القارئ لا غرائزه، وأن ننتقد دون شعبوية، وأن نخبر دون أحكام مسبقة، وأن نفتح للجميع صفحات الجريدة دون نمطية، وأن نبني مقاولة يخدم فيها الإعلان الصحافة لا العكس. كانت طموحاتنا كبيرة، لكن ظهر الحمار كان قصيرا… لم تمر العملية بسلام، كما في جل الدول المتخلفة.. اصطدمنا بجدار السلطوية، فكانت هناك حوادث سير كثيرة انتهت نهايات غير سعيدة. سنوات من السجن موقوف التنفيذ، غرامات خيالية، إقفال لمقر الجريدة ومنع صدورها وتجميد حساباتها، وشن حملة إعلامية مسعورة على كاتب هذه السطور، وفبركة ملفات حق عام يعرف القاصي قبل الداني أنها مفبركة ومفضوحة، وفي كل حوادث السير هذه كان القضاء خصما وحكما… الزميل خليل الهاشمي لديه تعريف طريف للصحافة في المشهد السياسي المغربي، يقول: «الصحافيون مثل الفرقة الموسيقية في العرس، ينشطون الحفل، ولا يتصور أحد وجود عرس بلا موسيقى». حتى لو أخذنا بهذا التعريف الموسيقي للصحافة، فإن صاحب العرس لا يمكن أن يجعل كل عناصر الجوق يعزفون على آلة واحدة.. هذا هو جوهر خلاف الصحافة، أو ما بقي فيها، مع السلطة. صاحب العرس يشترط على قبيلة الصحافة، على تنوع مشارب أصحابها وثقافتهم ولغاتهم وتكوينهم ووظيفتهم واستقلاليتهم أو تبعيتهم.. يريد من الجميع أن يعزف على آلة واحدة، وحبذا لو كانت هذه الآلة هي «الطبل»، أي أن نصير جميعا طبالين عند صاحب العرس، يقول لنا اضربوا فنضرب، ويأمرنا أن نتوقف فنصمت، يستدعينا متى شاء، ويصرفنا من الخدمة متى شاء. هذا أسلوب لا يليق بالصحافة ولا بكرامة الصحافيين. الصحافة نبتة برية لا يتحكم أحد في نموها، والصحافة أداة لمراقبة أصحاب القرار، وعندما تصير هي نفسها مراقبة فإنها لا تصبح ذاتها، تصير شيئا آخر.. عندما نضع القلم في الزنزانة، فإنه يتحول إلى قطعة رصاص أو خشب أو معدن بلا حياة… في القرن الماضي كانت هناك جريدة في طنجة تزعج السلطان مولاي حفيظ، فأمر بإغلاقها، فنصحه أحد خدامه الأوفياء قائلا: «ولمَ تغلقها؟ اشترها يا مولاي واكتب فيها ما تشاء»… هذه النصيحة التي تتجاوز القرن اليوم مازال هناك من يبيعها للدولة، ومازال القائمون على أمورنا يأخذون بها، بل هناك من حاول تصديرها إلى الخارج، ووضع نظام للأعطيات والهدايا والأسفار للصحافيين الأوروبيين والأمريكيين من أجل جعل أقلامهم ناعمة مع المغرب، ترى ما يريدون لها أن تراه لا ما هو موجود، لكن المفاجأة، أو قل الكارثة، أنه كلما وزعوا أموالا أكثر تراجعنا في سلم التقارير الدولية. وحدها أرصدة الوسطاء ومشاريعهم الخاصة تنتفخ، ومعها يصدقون أنهم صاروا شخصيات مؤثرة… لهذا عندما تطلون على الأكشاك وعلى مواقع النيت ستجدون صحفا كثيرة وحرية قليلة.. مواقع كثيرة وجرأة نادرة.. ألوانا كثيرة تغطي وجها كالحا هو وجه البلاد. هموم الصحافة من هموم الوطن، ولهذا يجب ألا نخفيها عن الرأي العام. لا بد أن نمارس النقد الذاتي مع النفس ومع المواطنين. البلاد تحتاج إلى صحف وإذاعات وتلفزيونات ومواقع أفضل مما هو موجود الآن. البلاد تحتاج إلى من يقول للسلطة الحقيقة، لا من يجاملها كل يوم. البلاد بحاجة إلى مساءلة القرارات الكبرى التي تمس حاضر ومستقبل الشعب، لا من يشغل الناس بحوادث القتل والاغتصاب والفرقعات الإعلامية الفارغة. البلاد بحاجة إلى صحافة حرة ومستقلة عن الدولة والأجهزة والأحزاب والشركات ومراكز القوى والدولة الموازية. البلاد بحاجة إلى مراقبة كل سلطة لأخرى.. هذه هي أصول اللعبة الديمقراطية. أعتذر إن أنا حولت مناسبة الاحتفال بعيد ميلاد هذه الجريدة إلى مرثية لأحوال الصحافة، فليس في واقعنا ما يدعو إلى الفرح الحقيقي. من جهتنا، نفكر كل يوم في إنتاج صحافة أفضل من أمس، وفي كل يوم نحاول أن نقفز على حواجز الرقابة الذاتية والموضوعية، وفي كل يوم نضع أمامنا حق القارئ في أن يعرف حتى لو عرضنا سلامتنا واستقرار أسرنا ومقاولتنا للخطر. في افتتاحية العدد الأول من هذه الجريدة يوم 2 مارس 2009 كنت قد وعدت القراء بجريدة مستقلة ومهنية تباع في الأكشاك ولا تشترى في الصالونات، وختمت بالاستشهاد بمثل صيني مشهور يقول: «قد لا تستطيع أن تمنع الغربان من أن تحلق فوق رأسك، لكنك تستطيع أن تمنعها من أن تعشش في عقلك». اليوم أعيد المثل نفسه ولا أزيد…