في واحد من حواراته القليلة، سيشتكي عبد الله العروي، من الشطط في التأويلات التي تتعرض له مقالاته غير الفكرية والأقرب إلى التناول الصحافي العابر. كان ذلك في أواسط التسعينيات، حيث نُشر الحوار في مجلة «آفاق»، التي يصدرها اتحاد الكتاب، والواقع أن العروي كان يُلمّح إلى مقال شهير له صدر في مؤلف جماعي ضمن سلسلة «تشييد دولة عصرية»، التي كان يُشرف عليها إدريس البصري، حيث تضمن هذا المؤلف، الذي خُصص للاحتفاء بدستور 1992، نصا ناقش فيه عبدالله العروي مجمل التطورات الدستورية التي عرفتها المملكة المغربية. في الحوار ذاته، سيقيم، صاحب «الإيديولوجيا العربية المعاصرة»، مقارنة بين ما يقع له، وبين ما كان يحصل للمفكر الفرنسي «ريمون آرون»، عندما يُناقش ويُحاجج في اللقاءات الفكرية بمقالاته بجريدة «لوموند» أكثر مما يُناقش انطلاقا من أبحاثه وكتبه. بعد ذلك بسنوات، وعندما ستستضيفه القناة الثانية كضيف في برنامج «في الواجهة»، الذي كانت تديره مليكة ملاك لمناقشة حدث «التناوب التوافقي»، سيلتقط الصديق محمد الكحص – الذي كان حاضرا لمحاورته – جوهر الإشكالية، ليسأله في بداية الحلقة عن شعوره مع هذا الانتقال العارض من سجل الكتابة والتأمل و»العمق»، وهو سجل له زمنه الخاص، إلى سجل التلفزة والصورة، وهو سجل مبني على السرعة والاختصار و»السهولة» ربما. إنها حالة المُفكر مع إشكالية التلقي، خاصة عندما يختلف سياق إنتاج الأفكار والتحاليل موضوع هذا التّلقي ولا يرتبط، دائما، بهاجس التأمل النظري والفكري بكل شروطه المنهجية، أو عندما يختلف الجمهور المُستهدف و»يضطر» المفكر للتواصل مع أوسع ما يمكن من الناس. والغالب، أن الوعي الحاد بهذه الإشكالية، قد يكون هو ما دفع عبد الله العروي، إلى الامتناع عن تعريب كتابه /شهادته حول: «مغرب الحسن الثاني»، توجسا من خلق أي سوء فهم مع أفق انتظار جمهوره القارئ باللغة العربية. يشعُر المفكر، إذن، بالغبن، وهو يرى أمامه سطوة وانتشار تأويلات سياسية ومختزلة لأفكار صاغها على عجل في حوار بالجريدة أو في مقال سريع ومناسباتيٍ، خاصة عندما يتعلق الأمر بمواضيع معقدة – كالعادة – احتاج لكي يُعالجها ولكي يقارب إشكالاتها، في مؤلفاته النظرية، صفحات وفصول كاملة. إذا كان الأمر يتعلق، هنا، بالإرباك، الذي قد ينتجه المرور «الإعلامي» للمفكر، سواء عن طريق الصورة أو المقالة أو الحوار، فماذا عن إشكالية تلقى يومياته وخواطره؟ ما الذي يكتبه المؤلف في خواطره؟ أليس مجرد انفعالات اللحظة وهواجس الذات؟ وحتى عندما يتعلق الأمر بيوميات تنشغل بالسياسة، بأحداثها الوطنية والعربية والدولية، فإن زاوية المعالجة لا تصل إلى درجة صياغة تحليل سياسي أو بناء موقف مما يقع، ولن تنطلق في النهاية، من أكثر من التفاعل السريع والفوري مع الأحداث، ومن استحضار المواقف الذاتية من الأشخاص والوقائع. من حق المفكر أن يقتسم مع قرائه يومياته، فهو يقدمها كما هي: مجرد خواطر، ليست كتابات في المفاهيم ولا في التاريخ ولا في النظرية. لكنه مع ذلك لن يستطيع أن يمنع حجم التشويش، الذي قد تمارسه بعض هذه الخواطر واليوميات، على مجمل أفكاره وأطروحته. لكل ذلك أفضل ألا أقرأ «خواطر الصباح» للأستاذ عبد الله العروي، حتى لا تشوش في ذهني يومياته الصباحية «الطازجة» على مفاصل مشروعه الفكري المُختمر!