{ كيف تنظر إلى حركة 20 فبراير بعد أربع سنوات على ميلادها؟ أخذت حركة 20 فبراير أهميتها من السياق العام في المنطقة في 2011، لكنها أيضا كانت تنطوي على مضامين ذاتية بارزة عززت مقدرتها على التعبئة. لقد تطورت تلك الحركية، كما لاحظنا، بشكل تدريجي، في تلك الأسابيع، وظهر جليا أن وقعها قوي، لاسيما في شهر فبراير حتى شهر ماي، وقد امتدت حتى آخر ذلك العام، أي مع إجراء الانتخابات البرلمانية، لكن في عمرها القصير، كانت أقوى اللحظات في شهور فبراير وأبريل وماي. كانت القدرة الهائلة لدى الناشطين في حركة 20 فبراير على تعبئة الناس أمرا جديرا بالانتباه، لكن كان هناك تفاوت ملحوظ في التعبئة حينما تقارن بين مظاهرات مدينة طنجة، مثلا، بمظاهرات الدارالبيضاء والرباط. كان في العاصمتين الإدارية والاقتصادية نقص كبير في عدد المتظاهرين بالمقارنة مع طنجة، كما أن مضامين المظاهرات كانت تتفاوت أيضا. وكانت الشعارات المرفوعة في مدن متوسطة ليست مثل الشعارات المرفوعة في المراكز الحضرية الكبيرة، لأن الاختلاف بين المتظاهرين، من مكان إلى آخر، كان يشمل النوع كما يشمل الكم. لقد طرحت حركة 20 فبراير في مناخها المرحلي ورشا مؤسساتيا هائلا، ووضعت ما نسميه الأخلاق العمومية قيد الدرس، وجعلت من الشأن العام ومن أخلاقياته أولوية بارزة، وستظل كذلك، لكنها أيضا أبدعت شيئا لافتا للانتباه، وهو التحالف بين النقيضين، وهو عمل لم يكن يؤمن أحد تقريبا قبلها بإمكانية تحققه. لقد وضع الإسلاميون الراديكاليون (جماعة العدل والإحسان) أيديهم في أيدي اليساريين الراديكاليين، وظهر أن الحراك تحت تسمية 20 فبراير يمكنه أن يستوعب الجميع، بل وقد يدفع المظاهرات قدما إلى مستويات عالية، لكن تبين أن العناصر المتناقضة حتى وإن اجتمعت يوما، فمن الصعب أن تحقق الإجماع من حولها. ومع ذلك، فهذه رسالة بعثت بشكل سلس وقتها؛ ومفادها أن الإسلاميين واليساريين يمكنهما أن يجتمعا تحت راية واحدة في مواجهة طرف أو سياسة ثالثة. وحتى إن كان اليساريون والإسلاميون في ذلك الحراك لا يمثلون نسبا مهمة من التيار الرئيس للمؤسسات السياسية المغربية، إلا أن تأثيرهم على الأحزاب السياسية الأخرى كان مهولا، وهنا نتحدث عن صياغة الخطاب السياسي عندها، بالرغم من أن موقفها من الحراك بقي كما هو، وإن تمردت بعض الشخصيات منها وخرجت في مظاهراته. لقد أتاح الحراك آنذاك لليسار الراديكالي وللعدل والإحسان أن يجدا موطئ قدم في الشارع، وأن يختبرا قدرتهما على الحركية، وحتى الأحزاب التي وضعت مسافة بينها وبين الحراك (خصوصا الأحزاب الوطنية)، كانت لديها دروس مستفادة، ولأن الاحتجاج كما دعت إليه ونفذته 20 فبراير كان غير مألوف، فقد كان على الأحزاب الرئيسة أن تأخذ احتياطاتها، ولذلك تصرفت مع الحراك بحذر، وفضلت أن تبقى بمنأى عنه. { لكن حزب العدالة والتنمية كان مراوغا في تعامله مع الحراك، واستفاد منه في النهاية؟ بالنسبة إلى الإسلاميين، وحزب العدالة والتنمية خصوصا، كان الحراك فرصة لبناء قدرة جديدة للتفاوض بين الفاعلين السياسيين، وقد نجح العدالة والتنمية في تحقيق فوائد من الحراك، لكن لا يجب القول إن 20 فبراير يعود إليها كل الفضل في ذلك، ويمكنني أن أحدد نسبة تأثيرها على مجرى التاريخ آنذاك في مستوى نسبي، لاسيما في ما يخص قضية تعديل الدستور، لأن المشروع لم يكن سببه الحراك بشكل مباشر، وإنما كان مبرمجا طرحه، ولكن الحراك بذلك الشكل، وفي ذلك السياق، كان عاملا مسرعا. كانت لدى حركة 20 فبراير مضامين وأشكال مختلفة، وهو ما سبق شرحه، لكن الزمن لم يرحمها، لأن الوقت في مثل هذه الحالات من ذهب، وغير قابل للهدر، لكنه لم يكن في صالح 20 فبراير في نهاية المطاف. لقد فشلت 20 فبراير في خلق حراك عام ومتسق، وكان التفاوت بين المناطق ينبئ بأن الوضع سيشرع في التراجع بشكل تدريجي. لم يكن يظهر هنالك تنسيق بين المناطق، وانكسرت شوكة الحراك في بعض المدن، واضمحلت بصفة نهائية في مدن أخرى. لم يكن الحراك في الدارالبيضاء مثل حراك صفرو، ولم يكن واضحا ما يوحد بين هذه المناطق تحت تسمية 20 فبراير، لأن الاختلاف كان بارزا، لكن بغض النظر عن ذلك، فإن الحراك قدم درسا في منطق توحيد الجهود بغية تحقيق الهدف نفسه، وهو ما كان يبدو صعب المنال قبل 2011 بالنسبة إلى المؤسسات السياسية غير الرسمية. { إلى ماذا تحولت 20 فبراير إذن؟ بقيت 20 فبراير محض فكرة للاحتجاج، راية تُنصب على عمود خشبي وترفع فوق الحشود، أو ملصق يوضع على الفيسبوك، لكنها غرست في عقول الناس العاديين، كما النشاطين والطبقة السياسية، فكرة أن الانتفاض لتحقيق أهداف مشتركة ممكن الحدوث. لقد عرفت 20 فبراير نوعا من الفتور، لكن أغلب الناشطين في الحراك مازالوا في مواقعهم، وهو ما يجب أن نقرأه بعناية، لأن التفرعات الجديدة لحراك 20 فبراير في المجتمع يمكنها أن تقدم بديلا مستحدثا عن حراك شامل. ها نحن اليوم أمام ديناميات في المجتمع المدني لم تكن معهودة قبل 2011، كما أن علاقة الناس بالسياسة والسياسيين قد أعيدت صياغتها، زد على ذلك، أن الناس يعيدون تشكيل علاقتهم بالمؤسسات العامة. لقد أصبح الناس أكثر وعيا بوضعهم السياسي و الاجتماعي والاقتصادي. هنالك تأثير بالغ لحراك 20 فبراير على المجتمع المغربي بكافة مستوياته، ولكن ما يظهر لنا اليوم ليس سوى جزء صغير مما أحدثه في دواخلنا، ويمكننا مع مرور الوقت أن نستكشف تأثيرات أخرى. { وهل تبقى شيء من الحراك اليوم؟ كان على حراك 20 فبراير أن يذبل قليلا لأن تأثير حراك مصر وتونس كان جوهريا في مصير الحراك المغربي، ولا يمكن إنكار أن الأثر النفسي والجيو-استراتيجي لنتائج الثورات العربية على عقول الناس في المغرب كان مدويا. لكني بالرغم من ذلك، لا أعتقد أن 20 فبراير قد انتهت. كلا، لقد طبعت الواقع المغربي. هنالك الكثير من الأشياء التي لا تبدو لنا واضحة اليوم، ولا نقدر على نسبتها إلى عامل الحراك نفسه، لكن يمكننا الشعور بأن الحراك هو من ساعد على تشكيل ذلك الشعور إزاء القضايا والموضوعات المطروحة. وأنا لست متفقا مع من يقول إن 20 فبراير انتهت وماتت، ودفنت خلال السنوات الثلاث الماضية، وأرى أن الأفضل هو رؤية الأمور من جانب آخر، وأن نتأمل الظواهر الجديدة، وأن نتساءل عن إمكانية حدوثها لو لم تظهر حركة 20 فبراير. صياغة البدائل الجديدة بعد 2011 ليست وليدة لحظة معزولة عن السياق العام، ولكنها عملية متسقة مع نمط فرضه حراك 20 فبراير. { ربح من الحراك من كانوا بعيدين عنه.. هل هي نتيجة عادية ويمكن تفهمها؟ من المشروع طرح السؤال بهذه الكيفية، لكننا سنجد صعوبة في الجواب عنه بشكل منهجي مؤسس، وقد نخوض في هذا النقاش مطولا، لكننا لن نخلص إلى نتائج يمكن الوثوق في صدقيتها من الوجهة السياسية التحليلية. وفي رأيي، فإن الوقت الحالي لا يقدم العناصر الضرورية لقراءة ميزان الربح والخسارة بالنسبة إلى الفاعلين المتعاطين مع حراك 20 فبراير، لأن المشهد الحالي غير واضح، ومن يبدو لك اليوم رابحا وفق قراءة متسرعة للأشياء، قد يصبح خاسرا في العام المقبل. يمكننا أن نقرأ الربح والخسارة على ضوء نتائج الانتخابات، فنقول إن المبتعدين عن الحراك هم المستفيدون منه، ولكنها قراءة تقنية محضة، وقد لا تصلح للتحليل النهائي. ربما علينا أن نتريث قليلا قبل أن نصدر أحكاما في هذا الصدد، وأن ننتظر المرحلة المقبلة. بضع سنوات قليلة ستقدم لنا من ربح ومن خسر فعلا من حراك 20 فبراير. * مدير مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية