نشأت حركة 20 فبراير من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، وانبثقت من رحم النقاشات السياسية التي خاضها الشباب المغربي والتي تساءل فيها عما يجب عمله، مغربياً، للتجاوب مع رياح المطالبة بالتغيير التي هبت على المنطقة المغاربية والعربية. وتكونت، في البداية، مجموعة فايسبوكية للتضامن مع الشعوب، ثم أخذ بعض الشباب مبادرة الدعوة إلى التظاهر وإعداد "أرضية المطالب"، وكان للجمعية المغربية لحقوق الإنسان فضل مساعدة أصحاب المبادرة على الاتصال بالرأي العام من خلال الندوة الصحفية ل 17 فبراير 2011، ثم اتسعت حلقة الدعم بشكل سريع، لكن عِقْدَ الدعم سرعان ما انفرط بالسرعة ذاتها، ولم يعد يدعم حركة 20 فبراير، عملياً، إلا بعض التنظيمات اليسارية المحدودة التي قاطعت استفتاء فاتح يوليوز 2011، بينما، في مرحلة من المراحل، تحول مجلس الدعم إلى إطار داع للتظاهر، وأحياناً، حتى بدون وجود قرار بهذا الشأن صادر عن الحركة. اعتمد النظام، في مواجهة الحركة، على استراتيجية متعددة العناصر والأدوات. وهكذا، كان الجواب "الدستوري" سريعاً وتَمَّ تسويقه على أنه منتوج يستجيب لكل طموحات الشباب وتطلعه إلى التغيير؛ وتَمَّ عزل الديناميات الاحتجاجية عن بعضها البعض وبذل وعود لكل منها على حدة وإبداء الاستعداد لمعالجة ملفاتها الخاصة مقابل عدم مساهمتها في حراك 20 فبراير؛ وقُدمت تنازلات ملموسة إلى العديد من الفئات الاجتماعية. وجرى الانفتاح على قوة إسلامية أساسية وضمها إلى جبهة الدفاع عن الدستور الجديد والتحالف معها، مرحلياً، لإضعاف الحراك؛ ومُورس القمع متعدد الأشكال والرامي إلى تجفيف منابع حركة 20 فبراير وموارد تغذيتها بالطاقات النضالية والدماء الجديدة. جرت محاولات تهميش وتقتيل الحركة، ولكن مع تجنب السقوط في مستنقع الاصطدام الدموي الضاري الذي من شأنه أن يؤدي إلى وفيات كثيرة ويشعل، ربما، فتيل الغضب الشعبي العارم. كان النظام يتدخل لمنع المظاهرات تارة ويعود، ليسمح بها تارة أخرى، ولكنه أبدى صرامة مطلقة ولا نظير لها في مواجهة أية فكرة للاعتصام السياسي في ساحة من الساحات. ونزل النظام، بكل ثقله، لضمان تجنيد النخب التقليدية خلفه وتحويل التعبئة حول الدستور الجديد إلى حرب ضد حركة 20 فبراير استُعملت فيها الزاوية البوتشيشية وجزء من شبكة الجمعيات المحلية المنخرطة في برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وطاقم ضخم من الأكاديميين ورجال الإعلام وشيوخ السلفية. وتمت العودة إلى أساليب الحشد التقليدي التي مُورست خلال سنوات الرصاص والتي جعلت الاستفتاء يتحول إلى نسخة من استفتاءات الماضي. لكن هل كان هذا كافياً، وحده، لجعل عمل الحركة يتعثر ومسيرتها تضطرب ووهجها يخبو ونفسها النضالي يتبدد أم أن هناك عوامل أخرى تدخلت بقوة، أيضاً، لجعل الحركة تبقى حبيسة المستوى الذي وصلت إليه وتعجز عن تجاوزه. عانت حركة 20 فبراير، في نظرنا، من : 1- عدم وجود شعار واضح مكثف لمشروعها وهدفها؛ 2- محدودية الطابع التعددي؛ 3- عدم نزول الجماهير العريضة؛ 4- عدم حصول (الحدث /الشرارة)؛ 5- غياب قيادة وطنية ناطقة باسم مشروع الحركة؛ 6- تعثر المسار الثوري في "المحيط". 1) كان شعار الحركة المركزي هو إسقاط الاستبداد والفساد، ولكن هذا الشعار ليس واضحاً بالشكل الكافي، فكيف سيتم، يا ترى، إسقاط الاستبداد والفساد، عمليا؟ دفتر المطالب العشرين كان ينص على إلغاء الدستور، ووضع دستور جديد (من طرف جمعية تأسيسية منتخبة)، وحل البرلمان، واستقالة الحكومة. النظام حقق هذه العناصر بطريقته الخاصة وزرع الخلط في الأذهان وجعل حركة 20 فبراير تُوضع، وجها لوجه، أمام تناقضاتها، فهي ترفض الدستور الجديد ولكنها لا تستطيع صياغة مشروع دستور بديل، مثلاً، ولا حتى تحديد الأسس الكبرى للبناء الدستوري المطلوب. لقد عكست الشعارات المرفوعة أثناء مسيرات الحركة درجة عالية من التنوع والتعدد والغنى، ولكن النصوص الرسمية الصادرة عن الحركة ظلت سجينة شعار "الدستور الشعبي الديمقراطي" الذي لا يجيب بوضوح عن السؤال التالي : ماذا يعني تحقيق التغيير السياسي المطلوب في المغرب؟ هناك طرف يرى أن المؤسسات المشخصة لهذا التغيير لا يمكن أن تكون مستوحاة من النظم الحديثة، إلا جزئيًا، بل يجب أن تكون مجرد وعاء لتجديد مفهوم الخلافة الراشدة؛ وهناك طرف ثان يرى أن الديمقراطية لا يمكن أن ترتهن إلى "وهم الانتقال"، بل يجب أن تقوم على أكتاف العمال والفلاحين الذين يؤسسون دولتهم من خلال ثورتهم الخالصة. وكل طرف من الطرفين يعتبر، ربما، أن اللحظة الثورية حين تبلغ أوجها سيصبح بلوغ هدفه نهاية طبيعية لمسار الأحداث وسيتحقق، تلقائياً، ويتجاوز "مشاريع" الآخرين. وكان هناك طرف ثالث يناضل من أجل الملكية البرلمانية. وبالتالي لم يتحقق توافق على وضع الحراك في سياق التأسيس لانتقال ديمقراطي، بقواعده المتعارف عليها في أغلب التجارب، وبناء جبهة مؤتمنة على إنجاز المتطلبات الأساسية لهذا الانتقال. وقد ظهر تضارب الاستراتيجيات في اكتفاء البعض بالمسيرات وإصرار البعض الآخر على الانتقال إلى مرحلة الاعتصامات، كما تجلى في مناقشة قضية حمل العلم الوطني في المظاهرات والتي انتهت بالاتفاق على حمله باعتباره رمزاً وطنياً..؛ 2) بالنسبة إلى عنصر "التعدد" فهو ضروري في حركة مثل حركة 20 فبراير، إذا اعتبرناها مقدمة لإطلاق سيرورة الانتقال، إذ المفروض أنها حركة "شعب" بتعدد مكوناته وشرائحه ومدارسه الفكرية. مثلاً، حين انسحبت جماعة العدل والإحسان أصبحت الحركة تظهر كمجرد فعالية يسارية، بينما تلقننا دروس التجارب الجارية حولنا أن مجتمعاتنا لا يمكن أن تَعْبُرَ إلى الديمقراطية دون إنجاز توافق تاريخي بين الصف العلماني والصف الإسلامي؛ لا يمكن أن ينفرد أحد الفريقين بوضع أسس الديمقراطية أو النضال، وحده، من أجلها أو التقرير، وحده، في سبل الوصول إليها؛ لا يمكن لحركة 20 فبراير أن تتقدم وتنجز أكثر مما أنجزته حتى الآن إذا شعر الناس بأنها مجرد تعبير عن مطالب عائلة سياسية بعينها وأنها تحمل هَمَّ قضية تلك العائلة ولا تحمل هَمَّ قضية الشعب؛ 3) لم تنزل الجماهير الشعبية الواسعة إلى ساحة التظاهر بالشكل الذي كان بمقدوره حسم ميزان القوى لصالح الحركة بصورة نهائية. كانت الجماهير ترى، ربما، أن 20 فبراير هي نقطة البدء ولكن نقطة الوصول غير واضحة المعالم وليست هناك ضمانة على أنها ستحمل معها تغييرا ملموسًا في حياة الناس وتحسنا في أوضاعهم. حافظت أشد الشرائح فقرًا على منطق التحركات الفئوية والقطاعية والمحلية المباشرة والمرتبطة بقوتها اليومي ومشاكلها الملموسة والمطروحة، كل على حدة، بدون إدخالها في سياق نضال شمولي أو تعبئة سياسية. وحافظت الهوامش الحضرية المقصاة على انتفاضاتها ذات الطابع الانتحاري والتلقائي. في عدد من بلدان الحراك، تطور الاحتجاج ونما بفعل انتقاله من المستوى الاجتماعي إلى المستوى السياسي؛ وفي المغرب، بدأ الاحتجاج سياسيًا بموازاة الاحتجاجات الاجتماعية ولم يتمكن من استيعابها واحتضانها. وكان نجاح النظام في تحييد النقابات أحد أسباب فشل 20 فبراير في توسيع القاعدة الاجتماعية للمتظاهرين. شارك عدد من الأطر النقابية، كأفراد، في أنشطة الحركة، ولكن القيادات ارتأت استغلال ضغط الشارع لانتزاع مكتسبات اجتماعية، فقط. والكثير من المنظمات النسائية وجد في دستور 2011 استجابة لمطالبه، بدون انتباه إلى أن التنصيص على الحقوق لا قيمة له ما لم يكن تنظيم السلط قائمًا على أساس ديمقراطي وبالتالي ضامنا لتفعيل وحماية تلك الحقوق، وبدون انتباه، أيضًا، إلى طريقة صياغة المقتضيات الخاصة بالحقوق في الدستور والتي قد تسترجع باليد اليسرى ما تَمَّ منحه باليد اليمنى. كما أن نجاح النظام في تحييد الأحزاب ذات التاريخ النضالي العريق ساهم في تحييد جزء من الجماهير. ورغم تمكن حركة 20 فبراير من التوفر على "امتدادات" حية، داخل الأحزاب، فإن الظروف القائمة لم تكن تسمح بإحداث ثورات حزبية داخلية؛ 4) لم يقع في المغرب الحدث/الشرارة الذي يمكن أن يخلق رجة في البلد ويحفز أوسع المواطنين على التحرك ويجعلهم مقتنعين بأن الوقت قد حان لهزم التردد وهجر الانتظار وللثورة السلمية على الأوضاع وإحداث تغيير سياسي جوهري. الحدث/الشرارة الذي وقع في بلدان الحراك، كان بإمكان تأثيره أن يكون حاسما في المغرب لو تطابقت خصائص الأنظمة السياسية في تلك البلدان مع خصائص النظام السياسي المغربي. هذا الأخير، وبالرغم من افتقاره إلى أسس الديمقراطية الحقة، فإنه يحسن فن التنفيس الدوري المستمر ويوسع باستمرار دائرة حلفائه من الأحزاب والتنظيمات ويباشر الإقدام على سلسلة من الإصلاحات والتنازلات التي، وإن كانت غير جوهرية، فهي تخلق انتظارات؛ 5) كانت لحركة 20 فبراير قياداتٌ ميدانية تقنية تتولى تدبير أمر التظاهر، وكانت كل تنسيقية محلية مستقلة بذاتها وتتخذ قراراتها في جموعها العامة، ولم يكن أحد يمثل الحركة، وطنيًا، ويرسم خطواتها ويحدد تحالفاتها ويصوغ أهدافها وخططها. لم يكن شباب الحركة، ككل، يعتبر أن هناك جهة ما تتكفل بإسماع صوته وحمل راية المرافعة والتفاوض والحديث، وطنيًا، باسمه وباسم مشروعه. صحيح أن تنسيقية الرباط، لعبت، في وقت ما، دورًا أشبه بدور المركز وأن مواقف التنسيقيات المختلفة تطابقت، عملياً وبشكل تلقائي، في الكثير من الأحيان، ومع ذلك لم تستطع الحركة أن تفرز قيادة وطنية وأن تجعل منها نواة لجبهة الانتقال. ولاشك أن محاولة بناء تلك الجبهة كانت ستصطدم بكون التقاطب في المغرب ليس واضحاً، بالقدر الكافي، وليس هناك خط فاصل بدقة بين صف الحراك وصف خصومه، كما كان الأمر في بلدان أخرى، فقوة إسلامية، ذات مصداقية لدى جزء من الشعب، فضلت، رسميا، الابتعاد عن الحركة، وقوة أخرى، تعاني اليوم نزيفاً في المصداقية، قررت، ظاهرياً على الأقل، تبني قرار التظاهر في إحدى المحطات الأولى لحراك 20 فبراير..؛ 6) المآل الدرامي لبعض الثورات العربية جعل جزءاً ممن كان بإمكانهم منح حركة 20 فبراير الشيء الكثير والتأثير، إيجابياً، في تجربتها، يفضل مكسب "الاستقرار" على المكاسب المنتظرة من الحراك. حركة 20 فبراير تجربة جميلة وغنية قدمت نموذجا رائعاً لالتزام الشباب المغربي بالمفهوم النبيل للسياسة. والوعي بحدود التجربة، كما أظهرتها محطاتها الماضية، من شأنه أن يخدم مستقبل الفكرة. محمد الساسي جريدة "المساء" 13 مارس 2014 العدد 2321 الصفحة 09