بحثت عن صورة في تظاهرة باريس تسيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم أجد. سألت بعض الذين شاركوا في التظاهرة التي أطلقت عليها جريدة لوموند: «une journée pour l'histoire»، هل رفع أحد صورا تسيء إلى محمد (ص)، فقالوا: «لم نرَ أثرا لذلك». طبعا التظاهرة كان فيها أكثر من مليون ونصف المليون متظاهر جاؤوا من مختلف المدن والأحزاب والجمعيات والنقابات والجامعات والنوادي والكنائس والمساجد، ويصعب على أي سلطة كيفما كانت أن تؤطر تظاهرة من هذا الحجم، لكن العنوان السياسي للتظاهرة وضعه الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند قبل خروج التظاهرة إلى ساحة الأمة، وهذا ما يهم أي مشارك. إنها تظاهرة لإدانة الإرهاب، ورفض المس بحرية التعبير، والحفاظ على وحدة الأمة بكل أديانها وثقافاتها… ثم رجعت وسألت هل فعلا توصل وزير خارجيتنا، صلاح الدين مزوار، بمعلومات خاصة تفيد بأن هناك من سيرفع في تظاهرة باريس صورا مسيئة إلى الإسلام، ولهذا استبق الحفل بليلة، وأعلن أنه سينسحب من التظاهرة إن هي رفعت مثل هذه الشعارات؟ لا جواب. المغرب أدان وشجب ورفض مجزرة شارلي إيبدو، وأصدر الديوان الملكي بلاغا في الموضوع، وتحدث رئيس الحكومة في الاجتماع الأخير لهذه الأخيرة بالنبرة نفسها، وأصدرت الخارجية بلاغا في الاتجاه نفسه، وأخذ مزوار الطائرة إلى باريس وقدم التعازي لهولاند في قصر الإليزيه، وكان متوقعا أن ينزل رئيس الدبلوماسية المغربية مع 50 مسؤولا دوليا إلى الشارع لقيادة التظاهرة المنددة بالإرهاب إلى جانب ملك الأردن ورئيس السلطة الفلسطينية ووزير خارجية تركيا ورؤساء وزراء بريطانيا وإسبانيا والدانمارك… حكاية رفع الصور المسيئة في التظاهرة لا تسعف أحدا في فهم القرار الدبلوماسي الجديد، لكن قراءة حوار مزوار مع «جون أفريك» في عددها الأخير تقول كل شيء أو تقريبا كل شيء، الرباط مازالت تشعر بالمرارة من تصرفات الصديق الفرنسي وهذا ما يبرر مواقفها الأخيرة… يمكن تشبيه ما فعله مزوار مع فرنسا مثل جار على خصومة كبيرة مع جاره، ذهب ليعزيه في وفاة ابنه لأن للموت حرمته، لكنه لم يذهب معه إلى المقبرة لتشييع الجثمان، والغرض من هذا الامتناع عن الذهاب إلى المقبرة هو إبلاغ رسالة إلى الجار بأن «العداوة ثابتة والعزاء يكون، لكن لا تظن أن وقوفي في بابك لتقديم الواجب يعني أن صفحة الخلاف طويت، لا، إنها لم تطوَ قبل شارلي إيبدو وبعدها»… أظن أن هذا هو ما حصل بين الدبلوماسيتين الفرنسية والمغربية. لا علاقة للأمر بالرسوم والكاريكاتير والإسلام وأمير المؤمنين، وتقارب المبادئ مع المصالح في سلوك الدبلوماسية المغربية التي كانت على الدوام براغماتية ومتحفظة وتزن مصالحها بالمليمتر… لكن دعونا من ترحيب الشارع بسلوك مزوار لأنه يخاف على صورة نبي الإسلام، وتحفظ النخب على غياب المغرب عن تظاهرة عالمية للتنديد بالإرهاب الذي سبق له أن ضرب في الأرض المغربية، دعونا من هذا كله ولنجب عن السؤال التالي: هل كان من مصلحة المغرب ودوره الدبلوماسي في العالم كنموذج للاعتدال والوسطية وجسر لعبور الشرق نحو الغرب، ونقطة التقاء الأديان، أن يقاطع تظاهرة 11 يناير أم لا، أم إن المغرب بلد إسلامي، ويراعي مشاعر مواطنيه الغاضبين من رسومات شارلي إيبدو، وإذا كان واجباً إدانة الإرهاب فليس ضروريا أن نتفق مع أسلوب هذه الإدانة، وأن نذهب إلى حدود تبرير استفزاز العلمانية الفرنسية للدين الإسلامي؟ لكل واحد أن يجيب بالطريقة التي يراها عن هذا السؤال، أما كاتب هذه السطور فرأيه كالتالي: «كان على مزوار وحتى بنكيران أن يشدا الرحال للمشاركة في تظاهرة باريس دون تحفظ، رفعت الصور أم لم ترفعها -وهي لم ترفعها على أية حال- وقعت تجاوزات في جوانب هامشية من المسيرة المليونية، وهذا طبيعي، لكن قيادة التظاهرة والتوقيع الرسمي لها لم يكن فيه ما يسيء إلى الرموز الإسلامية». لماذا أؤيد المشاركة الرسمية الواسعة في هذه التظاهرة؟ أولا لأننا أمام أزمة كبيرة سيكون لها ما بعدها، وحضورنا فيها مهم من جهات عدة، ليس أقلها حماية أكثر من مليون مغربي يعيشون في فرنسا، وقد تطالهم إجراءات عقابية في غمرة الحمى اليمينية التي تجتاح فرنسا وتضغط على اليسار الذي يقود الحكومة إلى اتباع أجندة أمنية للانتقام لضحايا شارلي إيبدو. ثانيا، لا بد للمغرب أن يفرق بين مشاكله القضائية والسياسية مع فرنسا بخصوص ملف الحموشي، وبين أن نكون جزءا من إدارة ما بعد مجزرة شارلي إيبدو، وأن نُسمع صوتنا في فرنسا وخارجها حول أفضل الطرق لمكافحة الإرهاب وصيانة التعايش، أما استمرار القطيعة بين باريسوالرباط فلا يخدم مصلحة أي بلد، بل بالعكس يزيد من شقة الخلاف، حيث يمكن أن يدخل الخصوم من أجل تسميم العلاقات الاستراتيجية بما لها وما عليها…