تلعب النظم المستبدة والثورات المضادة، طوال الوقت، على أوتار الفتنة الطائفية، واستثارة النعرات المتعصبة لضمان إحكام السيطرة على الجميع، بإنهاكهم في تصادمات عقدية مصنوعة بعناية، لإثارة فزع الكل من الكل، ومن ثم، إيجاد البيئة الملائمة للاستثمار في الخوف. من مصر إلى سوريا إلى العراق واليمن وليبيا، ستجد أن القتل على الهوية كان منهج الأنظمة والتنظيمات في العام المنصرم وما قبله، حتى صارت القاعدة تقول: «إذا أردت هزيمة ثورة، استحضر لها ترسانة طائفية». في هذا العام، يتزامن الاحتفال بعيد ميلاد المسيح عيسى بن مريم مع الاحتفال بمولد خاتم الأنبياء، محمد بن عبد الله، عليهما الصلاة والسلام، لتتعانق مظاهر البهجة الخاطفة بين المسلمين والمسيحيين في محيط هادر من الدماء والقتل والقمع. أسبوع واحد يجمع عيدين، ومعهما ذكرى مأساة إنسانية مروعة، هي كارثة تسونامي التي حصدت أرواح 300 ألف إنسان في إندونيسيا ودول أخرى. لم يكن الموت طائفياً، وهو يخطف كل هذا العدد من البشر، فهل ثمة من يتدبر؟ نعم، هناك من فكر وتدبر، قبل أكثر من نصف قرن، هو المفكر المصري المسيحي، الدكتور نظمي لوقا، الذي قدم للمكتبة العربية أروع ما كتب في علاقة الإسلام بالمسيحية. يصدر لوقا كتابه «محمد الرسالة والرسول» بإهداء للإنسان «إلى السائرين في الظلمة، وإلى من يلوح لهم من أنفسهم فجر جديد.. وأيضا إلى الروح العظيم المهاتما غاندي الذي كان يصلي بصفحات من براهما وآيات من التوراة والإنجيل والقرآن، ومات بيد هندوسي متعصب، شهيد دفاعه الصادق المجيد عن حرية العبادة لأتباع محمد». وقد صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في منتصف القرن الماضي، وقررت وزارة التربية والتعليم في عام 1959، حين صدرت طبعته الثانية، تدريسه في إقليمي الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا)، وقد جاءت هذه الطبعة بثلاث مقدمات تحتفي به، الأولى لوزير التربية والتعليم، الصاغ كمال الدين حسين، والثانية للمفكر الراحل الكبير، الدكتور أمين الخولي، والثالثة لوزير الثقافة الأستاذ فتحي رضوان. ويقول الدكتور أمين الخولي، في تقديمه الكتاب إنه «إلى العقول القوية والقلوب الكبيرة التي تدرك من التدين أسمى معانيه وأنبل أغراضه». ويضيف: «يشعر قارئ كتاب (محمد الرسالة والرسول) أن باستطاعة البشرية الترفع المحلق عن وراثاتها ورواسبها الصلبة من أفعال آلاف الأجيال.. واستهواءاتها العنيفة، وضعفها المتهافت أمام هذا وأشباهه مما يثقلها، ويحول دون كل استعلاء منها». هذا عن المقدمات، أما الكتاب ذاته فهو رحلة في عالم أكثر نظافة ورقياً وتحضراً، يفيض بالفكر الفلسفي المدهش، والشاعرية الخلابة. ما أحوجنا لإعادة تدريس مثل هذا الكتاب، بما يحمله من قيم إنسانية رفيعة، في عالم يعج بتجار الموت وصناع الكراهية، تحت رعاية حكام، وجودهم في حياتنا، بحد ذاته، هو أكبر جريمة ضد الإنسانية. إن أول ما ينبغي أن يحاكم عليه هؤلاء أنهم صنعوا مجتمعاً للوحوش البشرية، ونجحوا في مضاعفة محصول البلادة والرداءة، حتى بات الناس يطربون للقتل، ويرقصون كلما شموا رائحة دماء. وفي بداية عام جديد، يجدر أن يهدى هذا الكتاب لمطرب الرومانسية، علي الحجار، صاحب الأغنية التي تقطر عذوبة «احنا شعب وانتم شعب .. لكم رب ولنا رب»، ويمكن له أن يعيره لكل مشايخ الجنرال الذين حرّضوا الجنود على قتل البشر، وكأنهم في رحلة صيد للبط. عن العربي الجديد بالاتفاق معه