في شارع الشهيد، انفلت من يده مقود السيارة، فكاد يصطدم بالراجل الذي سقط أمامه: تَسُوقُ بجُنونٍ، كِدْتَ تقتلني ! مَعْذرة، الضباب يَحْجُب الرُّؤية. لم يكن الصوت غريبا.. إنه فوزي..الطالب المناضل المشاكس والخطيب المفوه على أبواب الجامعة والساحات العامة، رَفَعَ إليه رأسه قائلا: يا للصدفة العجيبة، عرفتك يا فوزي من بَحَّة الصوت، ولولاه لما أرشدتني إليك هذه البطن المُنْتَفِخَة وشكل «البِيهْ» الذّي أنْتَ عليه! صافحه بحرارة وهو يردد: أيُّوبَ..يا للزمن الغابر..لوْ أَصَبْتُكَ بِمَكُروه كُنْتَ سَأْنَدمَ طُولَ العُمْرِ! لازلت أحتفظ بالذكريات، كُنتَ جِنا مَارِدًا، أذكر أن زميلاتنا آنذاك قُلْنَ لك: مَنْ يراك تخطب وتدافع وتثور هُنَا وهناك، لا يعرفك وأنت تدخن وتَحْتَسِي ما يقع تَحْتَ يَدَكِ وتَفْعَل بنا ما تفَعْل، لكنّ ردّك كَان حَاسِما: لكل مَقامٍ مقال، أَلازِلتَ كَذَلِكَ يا فوزي؟! ابتلع الرجل رِيقَهُ سائلا: لم أرك منذ عُقُود خَلَتْ؟ أَظُن مِن سِبعينيات القَرن المَاضي. غَيّبتني الأسوار، بعدها عُدت إلى الحياة، تبدل كل شيء، أما أنت فَصُوَرُكَ مَا شاء الله تَمْلأ الجرائد والقَنَواتِ، وأصبحت زعيما يا فوزي كما كنت دائما؟ المقابل فَقطْ هو الذي اختلف. غيّر مَجْرَى الحديث: هَلْ أوصِلُك إلى مَكَانٍ ما ! لا..أنا في حُكم المتسكع، أترجم بين الفينة والأخرى بعض المقالات للجرائد، المقابل زهيد، ولكنني زاهد في كل شيء؟ ألمْ نَحْصُل على تَعْوِيض، مُعْظَمُنا اسْتَفَاد ! لا، لم أبِعْ شيئًا لأحْصُلَ عَلى ثمَنه ! أما أنت يا فوزي فلا تترك الفرصة تمر دون أن تفوز بها: تعَوْيضٌ مُطَهَّمٌ عَنْ صَفْعَةٍ خَفِيفَة بِهذِه السَّاحَةِ عَلى مَا أذْكُر ! امتقع لون فوزي، نَدّت عنه حركة تعبر عن ضيق خانق، شعر أيوب بالحالة فقال: شُكْرًا لحادثة السير التي جمعتني بصديق السبعينيات، لو تتكرَّرُ الحوادث مع الآخرين ! مَد يده للسلام، ودعه فوزي كَمَنْ يَرْفَع عنه كابوساً ثقيلا، ثُمَّ سمعه يقول: لو كنت تشعر بألم ما من الاصطدام، أَنْقُلُكَ إلى المِصَحَّةٍ ! لا تَخْشَى عليَّ، أنا فقط، سَقَطْتُ مُرْتَجِفًا مِن حِدَّة الفرامل، أتسيرُ دَوْمًا هكذا، رُبَّمَا لِكي تَصِلَ قبل الجميع ! أدار المحرك، تحركت السيارة إلى الوراء، ثم انطلقت بسرعة كأن سائقها يَفُرِّ بها، غاب لونها الأزرق الدَّاكن وسط السيارات. التقط جريدته، وتحرك بخطى وئِيدة، كانت عيناه تلتقط بنايات الشارع الطويل: رائحة التاريخ تُنْعِشُ الفِكر والفؤاد، في هذه الساحة الفسيحة وأمَامَ هذا المرفق الأَثَرِي الخالد كان فوزي وأصحابه يصْنَعُون بالكلام مَدِينتهم الفاضلة، بَناهَا فَوزي وآخرُونَ على شَاكِلتهم، وظَّلتْ في خَياله طَيْفا عزيزا، تُذَّكِرهُ بِهِ حَادثةُ سَيْرِ كَادت تُرديه قتيلا!! [email protected] رئيس المنتدى المغربي للقضاة الباحثين