يَطلِقُ التونسيون على اليوم الأخير لما قبل انطلاق الانتخابات الرئاسية تسميةَ «الصمت الانتخابي»، في إشارة إلى إلزام المرشحين المتنافسين بإيقاف حملاتهم الانتخابية، والكفّ عن عقد المؤتمرات، وإجراء المقابلات. وفي هذا السياق، نظمت أحكام القانون الانتخابي إجراءات احترام هذا اليوم، وحددت العقوبات الواجب تطبيقُها على كل من ثَبتت إدانتُه بعدم الانصياع لهذا المنع، والتقيّد بضوابطه. وبحسب تصريحات الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، لم يشهد التراب الداخلي التونسي ما يمكن اعتباره خرقاً لمتطلبات هذا اليوم وأحكامه، فقد التزم المتنافسون الرئاسيون الصمتَ فعلا، وجمعوا كامل قواهم لخوض غمار اقتراع الثالث والعشرين من هذا الشهر. تُرجح استطلاعات الرأي أن تكون المنازلة في الدور الثاني من الاقتراع الرئاسي بين كل من المرشح «المستقل» محمد المنصف المرزوقي، وزعيم حزب «نداء تونس»، «الباجي القايد السبسي، في حين استبعدت أن تبرز قوة ثالثة بينهما، وإن حَصَل ذلك، فسيكون من باب المفاجأة ليس إلا. بيد أن ثمة من يرى أن احتمال تصاعد حظوظ مترشح ثالث، وارد جدا، وأن في لُعبة السياسة كثيراً من التفاهمات الضمنية، أو المُضمرة تظهر للعِيان، وتظل فاعِلةً في الخفاء، أي في كواليس عوالم السياسة. وإذا نحن صدّقنا توقعات استطلاعات الرأي، ورجّحنا انحسار التنافس بين الرئيس المؤقت «المنصف المرزوقي»، وزعيم حزب نداء تونس «القايد السبسي»، فهل سيخدم هذا النمط من التنافس تطلعات التونسيين في أن يروا بلدَهم يستكمل الحلقة الأخيرة من حلقات انتقالِهم الديمقراطي، ويُدشّن صفحةَ توطيد الاستقرار السياسي؟ لاشك أن بين المترشحين اختلافات كثيرة من حيث المسار الشخصي، ونوعية الثقافة السياسية، وطبيعة الحوامل الناظِمة لرؤيتهما لقيادة البلاد. بيد أن بين الرجلين قواسم مشتركة، وإن بدت محدودة وغير ذات قيمة. فبينما أسَّس القائد السبسي خطابه الانتخابي على مقولة الدولة، و«هيبة الدولة»، وأن شرعيةَ ترشحه تجد مصدَرها في نضاله الطويل من أجل توطين بُنيان الدولة، وترسيخ حضوره في مِعمار المؤسسات، سعى «المنصف المرزوقي» إلى إقناعَ جمهوره بشعار تونس، وفكرة الوطن، وأنه رئيسٌ لجميع التونسيين، وليس لحزب بعينه، أو مجوعة سياسية بذاتها. ومن عرف الرجلين عن قرب، يُدرك بجلاء مدى كفاءتهما في قيادة البلاد بفعالية واقتدار. يستند «باجي القايد السبسي» على نتائج وازِنة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، فقد حصد حزبه سبعاً وثمانين مقعدا، متصدراً كوكبة المتنافسين، بما فيهم حركة النهضة. في حين جاء حزب المرزوقي مرتباً في ذيل القائمة. وبمنطق بسيط، ليس لهذا الأخير نصيب من الفوز، مقارنة مع غريمه في حزب «نداء تونس». غير أن في السياسة ثمة أمورا لا تُقال، لكن تُمارس. بحكم الضرورة، التي هي أولا وقبل كل شيء ضرورة المصالح. ف«النهضة» التي لم تقدم أي مترشح للرئاسيات، وأعلنت على لسان برلمانها (مجلس الشورى) أنها تركت لأعضائها حرية التصويت، هل فعلاً ستظل وفيةً لما أعلنت عنه، ووَعدت به؟ أم ثمة ظاهر وباطن، كما يحدث في السياسة عموماً؟ وإذا ذهبنا بعيداً في التساؤل، هل نتوقع تصويت النهضة لصالح شريكها في الترويكا، الرئيس المؤقت «محمد المنصف المرزوقي»؟ إنها مجرد تخمينات لا يملك المرء معطيات يقينية للجواب عنها بصفة قطعية. وإذا افترضنا أن هذا ما ستُقدِمُ عليه «النهضة» يومَ الاقتراع، فما الذي ستجنيه من هذه العملية، عدا تجنيب البلاد استفراد «نداء تونس» بمؤسسات السلطة؟ وبالموازاة، هل يمتلك المترشح المدعوم من قبل «النهضة»، إن ظفر بالفوز، القدرةَ على بناء التأييد حول شخصه، وتحقيق الكاريزما اللازمة لتفعيل الصلاحيات الدستورية التي منحها إياه الدستور، وأحاطها بالكثير من الكوابح؟ أم سيجد نفسَه أمام أغلبية سياسية لا تُمكّنه من الاستثمار الأمثل لمكانته الدستورية؟ ففي كل الأحوال يحتاج الرئيس المنتخب إلى قوة داعِمة له في البرلمان والحكومة، لإعطاء مضامين حقيقية للصلاحيات الممنوحة له دستوريا، ودون ذلك، سيكون إما في وضع هشّ، تتقاذفه ضغوطات الأغلبية واشتراطاتها، أو في حالة تساكن مع الأغلبية من غير حزبه، أو الأحزاب الداعِمة له. والحال أن التساكن الممكن والناجح، يتحقق بوجود ثقافة سياسية حاضِنة له، ومعززة لاستمراره.. ومن هنا تبدو الحالة التونسية، في حال تحقق فرضية فوز مترشح غير مستند على أغلبية برلمانية وازِنة، في غاية الصعوبة والتعقيد.. ومن هنا أيضا تبدو فكرة إنجاح تفاهمات وطنية شاملة، تطال الرئاسيات وتشكيل الحكومة المرتقبة، ذات قيمة استراتيجية في رسم معالم تونس ما بعد الانتقال الديمقراطي. [email protected]