بعد مشاورات ونشر على الموقع الإلكتروني للوزارة، أقدم مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات، بالرباط رسميا، وفي ندوة وطنية، على تقديم مسودة جديدة للقانون التنظيم القضائي، بحضور مسؤولين قضائيين حاليين وسابقين، وبرلمانيين، ومنظمات حقوقية تعمل في مجال القضاء، وبرز خلال النقاش حولها أن ثمة قضايا جوهرية جديدة في المشروع قد تثير الجدل، لعلاقتها بمبدأ استقلالية القضاء. القضية الأولى تتعلق بالفصل بين ما هو إداري ومالي، وبين ما هو مهني قضائي، في عمل المحاكم. مسودة القانون اقترحت أن يتولى التدبير الإداري والمالي للمحاكم «مسير إداري» يعمل تحت سلطة وزارة العدل والحريات، على أن يتفرغ رئيس المحكمة، الذي أحدث القانون إلى جانبه «مكتبا للمحكمة»، لما هو مهني وقضائي تحت مسؤولية المجلس الأعلى للسلطة القضائية. هذا التمييز اعتبره قضاة «مسّا بمبدأ استقلالية القضاء»، ويقترحون أن يكون التنظيم القضائي موكولا للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، ويبقى التسيير القضائي والإداري والمالي تحت مسؤولية رئيس المحكمة. النقطة الثانية في هذه القضية، تتعلق بإحداث مكتب المحكمة بمحاكم درجة أولى ومحاكم درجة ثانية، الذي أسندت له المسودة مهام تنظيم المصلحة الداخلية للمحكمة، وتولي وضع مشروع تنظيم العمل بالمحكمة، من خلال تحديد عدد الأقسام والغرف بها، وتكوينها، وتوزيع القضايا والمهام بين القضاة، وأيام وساعات انعقاد الجلسات. وهو مكتب يمثل فيه، بالنسبة إلى محاكم درجة أولى، رئيس المحكمة ونائبه ورؤساء الأقسام وقيدوم القضاة بالمحكمة وأصغرهم سنا، ووكيل الملك والنائب الأول لوكيل الملك. بمعنى آخر أن كل أعضاء المكتب قضاة، لكن المسودة أدمجت إلى جانبهم «المسير الإداري للمحكمة مقررا»، في اجتماعات مكتب المحكمة. والخلاف بهذا الصدد يتعلق باختصاصات مكتب المحكمة، حيث يرى قضاة أن إحداث مكتب المحكمة بالاختصاصات المشار إليها كان على حساب «الجمعية العمومية» بالمحاكم، التي تتكون من جميع قضاة الأحكام والنيابة العامة العاملين بها، وبحضور المسير الإداري كذلك، وبمقتضى المادة 30 تعرض أمام الجمعية العامة مشروع تنظيم العمل المعد من قبل مكتب المحكمة لأجل المصادقة، ونصت المادة المذكورة على أن مشروع تنظيم العمل «يعتبر مصادقا عليه في حالة عدم الاعتراض عليه من قبل ثلثي أعضاء الجمعية العامة للمحكمة». القضية الثانية التي تزعج جهات داخل القضاة تتعلق بتعليل الأحكام ونشرها على العموم، من جهة لضمان حقوق المتقاضين في «تيسير الوصول إلى المعلومة القانونية والقضائية مجانا»، ومن جهة ثانية النص على وجوب تعليل الأحكام وأنه «لا يسوغ النطق بها قبل تحريرها كاملة». وأضافت المسودة إجراء دقيقا وجديدا يتعلق بإصدار الأحكام (المادة 17)، حيث نص على خيارين: الأول أن تصدر الأحكام عن هيئة قضاة إما بالإجماع أو بالأغلبية، بعد التداول في القضية سرا، على أن يتم تضمين نظر القاضي المخالف في محضر سري خاص موقع عليه من قبل أعضاء الهيئة، ويحتفظ به رئيس الهيئة الجماعية التي درست القضية وأصدرت الحكم بشأنها. والخيار الثاني هو حذف هذا الإجراء. وبحسب مصدر جيد الاطلاع، فإن وزير العدل والحريات قد يدفع باتجاه الاحتفاظ بهذا المقتضى لأنه إجراء فعال من أجل تكريس النزاهة والشفافية وسط القضاة. لكن بدا خلال النقاش أن هناك انقساما بين من يرى أن ذلك يُعدُّ انتهاكا لمبدأ سرية إصدار الأحكام، وبين من يرى فيه إجراء فعالا من أجل النزاهة، ولأنه أيضاً يوفر الاطمئنان النفسي للقضاة الذين لهم رأي مخالف للحكم الصادر عن هيئة جماعية هم أعضاء بها. القضية الثالثة تتعلق بالتعويض عن الخطأ القضائي. في القوانين المعمول بها لحد الآن يحق للمتضرر من حكم أو قرار قضائي نهائي، تبين خطؤه لاحقا، الطعن فيه والمطالبة بتعويض، وكان القضاء يقضي بذلك في إطار المسؤولية المدنية للجهاز القضائي. لكن المسودة الجديدة نصت على أن المتضرر من حكم أو قرار قضائي «صدر نتيجة تدليس أو خطأ جسيم» يحق له المطالبة بتعويض تتحمله الدولة. وهو مقتضى يعني إمكانية ملاحقة القضاة الذين يتبين فيما بعد أنهم أصدروا أحكاما وقع فيها تدليس أو ارتكبوا خطأ جسيما. وتوقع الرميد أن يلقى هذا المقتضى اعتراضا من طرف القضاة، فوضع في المسودة خيارات بديلة. هذا، وتضمنت المسودة قضايا لافتة أخرى، معتبرة اللغة العربية لغة التقاضي والمرافعات أمام المحاكم وصياغة الأحكام، لكنها فتحت الباب أمام استخدام اللغة الأمازيغية، طبقا لمقتضيات الدستور. وهي قضية قد تثير جدلا بين الرميد والجمعيات الأمازيغية خاصة. وشدد الرميد في كل أطوار النقاش الذي احتضنه، أمس، المعهد العالي للقضاء على استعداده للحوار والنقاش، مؤكدا أن المسودة مفتوحة على التعديل والتنقيح، كلما كانت هناك اقتراحات مبدعة وفعالة، من شأنها الارتقاء بمنظومة العدالة وتكريس استقلالية القضاء ونجاعته.